يحب المرء دائما الظهور بصورة مثالية أنيقة ورائعة ومتميزة أمام الجميع، ويسعى لإزالة كافة المعوقات والسلبيات التي تقف أمام ظهور تلك الأناقة واللباقة، ويتخذ لتحقيق ذلك وسائل شتى تتنوع باختلاف مقاصده ما بين مادية ومعنويّة حتى يرى الناس جميل ما عنده، وذلك حسن يحمد عليه، فحب الظهور في أفضل صورة ومظهر وجمال –دون ارتكاب محظورات- فضيلة راقية يمكننا تسميتها ب(قيمة التألق).
فحب التألق والظهور بشكل جذاب وأنيق يعد محفزًا ودافعًا قويًا للفرد لإظهار صورته المثلى ورقيه أمام من يتعامل معهم على كافة الأصعدة والمجالات، وبالتالي استخراج أفضل ما عنده من سلوكيات ومظاهر وأخلاق تجعله متميزا في أعينهم.
ولتلك القيمة الرائعة غاية وآداب وسلوكيات على الفرد أن يعيها ويسعى دائما لتمثلها على الوجه الأكمل، وذلك لأن حياة المسلم مرتبطة بأهداف دنيوية وأخروية يسعى لتحقيقها، وتلك الأهداف الدنيوية تخدم الأهداف والغايات الأخروية التي خلقه الله من أجلها وسخر له الكون وما فيه لخدمته، فالمسلم تحكمه منظومة من المعايير والقواعد والأحكام التي تضبط سلوكياته، تلك المنظومة القيمية لا تتغير بتغير الزّمان والمكان، “تتسم بالثبات والرسوخ، فهي قيمٌ تتنافى مع النسبية، ولا تقبل المفاصلة أو المساومة أو التنازل أو التجزئة، فهي قيم ثابتة لا تتغير بتغير المواقف والملابسات والظروف المختلفة؛ «أدِّ الأمانة لِمَنْ ائتمنك ولا تَخُنْ مَنْ خانك» ” .
والقيم في الإسلام “منظومة متكاملة ومترابطة وشاملة لكل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية، تهدف إلى تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وتقوم على منطلق عقدي بالأساس، وتراعي في تطبيقاتها البعد الواقعي والعلمي، فلا يمكن أن تتعارض مع السّنن الكونية الطبيعيّة”
لذا فكما يحب المرء التألق أمام الخلق والظهور بأفضل وأحسن صورة أمامهم، فالأجدر به أن يتألق أمام خالقه الذي خلقه وسواه، ووهب له أسباب التألق، وأحسن خَلقه وخُلقه، فسبحانه صاحب الألطاف، والإحسان، والإفضال، والنعم الظاهرة، والباطنة، وجوهر التألق يكون بالتقوى والعمل الصالح وإحسان العبادة واتباع أمره به سبحانه وتعالى، وتجنب ما نهى عنه، ومراقبة الله في السر والعلن، والإحسان إلى الخلق وغير ذلك من مظاهر التألق المهمة، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل، فكل تألق هدفه دنيوي بحت حتما لن يجد المرء فيه لذة وطعم الطاعة والراحة والسكينة والطمأنينة التي تغلفها العادات المبنية على النيات التعبدية علاوة على افتقار المثوبة من الله سبحانه وتعالى.
وأما النقطة الثانية هي التألق أمام النفس بحسن تربيتها وتهذيبها وكبح جماحها عن كل ما يغضب الرب سبحانه وتعالى، وتزكيتها بما ينفعها من العلم النافع والعمل الصالح فيكون التألق وسيلة لرفعة دينك ومجتمعك وأهلك ووطنك، ومحاولة الرقي بمستوى أخلاقنا، وأفكارنا العلمية والعملية التطبيقية حتى تصل إلى درجة التميز. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ))، وفي رواية: ((إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ)).
وعليه يكون التألق شعورًا داخليا مرتكزا على منظومة من القيم والمبادئ التي لا تتزعزع عند الفتن والأهواء. فالتألق أمام النفس يحتاج مجاهدة عظيمة للنفس البشرية الأمارة بالسوء، حتى تألف الطاعة والعبادة وعمل الخير.
وإن التألق أمام النفس بتمثل أفضل القيم وتطبيقها لهو الفوز العظيم، وذلك بأن نكون على جانب من الإدراك والوعي، والفهم العميق الذي ندافع به عن قيمينا الإسلامية الرصينة أمام من يحاول تشويهها، “فالمؤمن لديه حجة، عنده منطق، معه دليل، معه برهان، إدراكه دقيق، فهمه عميق، تصوُّره صحيح، رؤيته ثاقبة، قراره حكيم، هذا هو الجانب العقلي للمؤمن، لأن المؤمن شخصيةٌ متميِّزة، فيه جانب نفسي أخلاقي، وفيه جانب سلوكي بناء. وسيدنا عمر مثَّل شخصيَّته، أو جانبه الإدراكي بكلمةٍ رائعة، فقال: لست بالخِب، ولا الخَبُّ يخدعني”.
إن ظهور مظاهر التألق الحسنة عليك تعكس حسن التربية ومنها جلب الدعوات لمن لهم حق عليك، وأعظم التألق هو التألق مع الوالدين بحسن البر لهما وطاعتهما وتوقيرهما والإذعان لأوامرهما، والإحسان إليهما في حياتهم من خلال الحرص الدائم على جلسات يومية معهم في الأوقات التي تناسبهم، وتبادل الأحاديث الودية معهم.. وإدخال الأنس والسرور عليهم، وإشعارهم الدائم بأننا في حاجتهم حتى يطمئن الوالدان ويزول عنهم القلق وهم في الحاجة إلى ذلك حينما يزيدان في العمر، والعمل على توفير كافة احتياجاتهم وتقديمهم على النفس. والدعاء لهم والتصدق عليهم عن وفاتهما.
وكذلك التألق مع الأهل والأولاد، بالأخذ على أيديهم للطريق السليم ودعوتهم إلى كل خير وبر، وغرس محاسن الأخلاق فيهم والنصح المستمر لهم وتوجيههم والعناية والرحمة بهم والإحسان إليهم، فخير الناس أنفعهم وأقربهم مودة لأهله، قال ﷺ:”خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”. وراه الترمذي.
قال الشوكاني: “فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقا وأشجعهم نفسا وأقلهم خيرا. وإذا لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق زائغ عن سواء الطريق”.
وهناك التألق مع الخلق بالمساهمة في قضاء حوائجهم والإحسان إليهم، في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه”.
“وكلما كان الإنسان أكثر إحساناً إلى نفسه وإلى غيره كان أقرب إلى رحمة الله، وكان ربه قريباً منه برحمته كما قال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [56] [الأعراف: 56].
واختص أهل الإحسان برحمة الله؛ لأنها إحسان من الله، والإحسان إنما يكون لأهل الإحسان من خلقه؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم، أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [60] [الرحمن: 60].
وللتألق جوانب متعددة ومتنوعة وكل يجود فيها حسب استطاعته وقدرته، وأسماها أن تكون لله وفي الله، وأن تكون أخلاق النبوة حاضرة في كافة سلوكياتنا ومعاملاتنا اليومية حتى نكون أنموذجا يحتذي به في التألق، فنجسد منظومة متكاملة من القيم والأخلاق الرفيعة.
كن متألقًا فالمرء يُعرف في الأنام بفعله وخصائل المرء الكريم كأصله
نزار عبد الخالق
مقالات سابقة للكاتب