فاتنتي ( غران )، التي سكنتها منذ طفولتي ولازالت وفيةً تسكنني حتى اللحظة .. بل هي الفاتنة التي أرضعتني من حليبها حتى غدت ليّ أماً ، وصرت لها رجلاً يحمل بين جنبيه ذلك الطفل الذي لم يشبع من رضعاتها ..
غدا رجلاً راشداً ولازل يحمل بين جوانحه ذلك الصغير المليء بالبراءة والبهجة ، ولازل يحمل في حقيبته خبيئةً جعلها بين حروفه ، يسكن لها عندما تستبدُ به الوحدة والغربة ، ويمرُّ بتلك الممرات البعيدة .. أقبية الوحشة ، عندها تطهره خبيئة أبجديات حروفه ، فيستمع لبلبل الشوق الذي يصدح في حقل قريتي ويستمع لذلك الشدو جموعٌ ألفت صوته وألِفَ حضورها … الجيران وأترابه ورائحة خبز الطفولة.
غران .. فاتني ، اكتب لها واقفاً ؛ لأعبر عن تلك الوجوة التي ينحتها صرير القلم ..
أما ماران على قلب ذلك الطفل وثقوبه السوداء فتعمل خبيئة حروفي على رمقه بقلبه النقي ، ويصلي عليها صلاة التسامح.
وتعصف به حيناً رياح أسئلة ، ماذا ستكون الكتابة عند ذاكرة لم يعد الحرف يتسع لها، ولم تعد ذاكرة الآخرين تحتمله ا.. فتكون الإجابة حاضرة ، فلعل ذلك الطفل الذي غدا رجلاً يكتب ربما لصغاره الذين ولدوا هنا ، يوم أن كان هو هناك..
وربما خبيئته تجيب عن أسئلتهم ، وعن بائع الجرائد الذي أتى في موعده ، فلم يجده ، لقد كان الغياب أكبر فجيعةً من السؤال.
ولعلّ خبيئته تكتب الآن لابناء قريته الصغار الذين يقترفون مرارة سؤالهم المبكر ويبحثون عن بقية الإذخر في كف أبيهم الذي لم يحضر..
أما من كبر وبلغ رشده وأقبل على عقله ونأى عن قلبه فلا يزال يقلب جِراره ، ويجلس على حافة أيامه.
والآن ، كبر ذلك الطفل ولا زالت تلك الفاتنة تسكنه ، فنجد أنها تتصدر كلماته بـ سيدتي وتُذيل بـ البدوي.
سليمان مسلم البلادي – مستشار تدريبي
مقالات سابقة للكاتب