🖋️ أولُ ما كتبتُه في الصفحة الفارغة من نسختي من كتاب (الداء والدواء) والمعروف أيضًا باسم (الجواب الكافي لـمَن سأل عن الدواء الشافي) لابن القيم -رحمه الله-: “كتابٌ يجعلك تخجل من نفسك”، ولا يزال انطباعي عنه كما هو، رغم مرور ثلاثة أشهر على إتمام قراءته. وهو كتابٌ حقّه التكرار، فلعل يقظةَ النفس أقرب لـمَن أدامَ خاطِرُه الفِكرَ في معانيه حدّ الاستقرار.
ومع أنّ أصل الكتاب هو جوابُ سؤالٍ ورد على المصنّف ليُدلي بدلوه في ذكر دواءِ داءٍ قلبي معنوي -له مظاهره الماديّة-؛ إلا أن الإجابة تضّمنت الاستغراق في تفصيل آثار الذنوب على الإنسان. قد يقول قائل ما دخل الذنوب بأي داء قلبي معيّن ولو كان معنويًا؟ ولو أردتُ اختصار الجواب من كلامه سأختار قوله: “إنّ الذنوب هي أمراض متى استحكمَت قتلَت، ولابد.” ص257
أما التفصيل فعلى القارئ أن يراجع الكتاب بتمامه؛ وإن فعل؛ فلن يندم. فحين تقرأ كلامًا مُطولًا ومُركّزًا عن عواقب الذنوب الدنيوية قبل الأخروية فليس لك إلا أن تُنكس رأسك، وتُحدث نفسك أن: “لولا ستر الله وحِلمُه؛ لهلَكت!” ولهذا الوَقع رَجعُه الطيّب في تحسينِ المرء لنفسه ولو في بعضِ شأنه، وأول الغيث قطرة.
ثلاثة أرباع الكتاب الأُولى أبلغُ تأثيرًا برأيي على نفس القارئ المصاب بالداء، وكذا القارئ الغير مصاب به. ولو لم يُوفق المصنف لهذه الطريقة فما أظن أن الكتاب سيشتهر بتأثيره ويحظَ بانتشاره! أما المصاب بالداء فإذا حطّ رِحاله في الربع الأخير؛ استوى قلبُه، وتهيأت نفسُه، ووجدَ انقيادَه إلى توصيف الدواء أتمّ وأكمل مما لو لم يمر بكل تلك المقدمات المبسوطة حول الذنوب.
لم يخلُ الكتاب في بداياته من مقدمات تسبق الحديث عن آثار الذنوب، ولكني أسلّط الضوء على الآثار لشدة الدهشة بتعددها وتنوعها! “وها هنا نكتة -أي: فائدة- دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب، وهي أنهم لا يرون تأثيرَه في الحال، وقد يتأخر تأثيره فيُنسى، ويظن العبد أنه لا يغبِّر -لا يُثير الغبار يعني لا يرى أثر الذنب- بعد ذلك… ولم يعلم المغترّ أن الذنب ينقُض، ولو بعد حين؛ كما ينقُض السمّ، وكما ينقُض الجرح المندمل على الغِشّ والدَّغل.” ص130
شيءٌ من الدهشة الدائمة تُصاحب القارئ لكتابات ابن القيم -رحمه الله- خصوصًا ما ارتبط منها بالقلوب والذنوب والأعمال، مما يشير أنها مكتوبة بقلمِ خبير؛ فتقرأ وصفًا دقيقًا خفيًا وتقول: كأن المكتوب أنا؟! وفي كتابه هذا يحدثك عن الخَطَرات واللحظَات، وشيئًا كثيرًا من الأحوال والتفصيلات، وهذا يدل على علو كعبٍ في التأمل في أدواء النفوس، ورغبةٍ ملحّة في وصف أنجع السُبل لمعالجتها. ومن بديع كلامه لفظًا وأهوله معنًى، قوله: “فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة، لأنه بمنزلة السكران والمخدَّر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحا أحسّ بالمؤلم… وقد تقارن المضرّة للذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيرًا وإما مدّة، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه. وكثيرًا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل عمله على التدريج شيئًا فشيئًا، كما تعمل السموم والأشياء الضارّة حذو القُذّة بالقذّة. فإن تدارك العبدُ بالأدوية والاستفراغ والحِمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك. هذا إذا كان ذنبًا واحدًا لم يتداركه بما يزيل أثره، فكيف بالذنب على الذنب كلّ يوم وكلّ ساعة؟ فالله المستعان.” ص272
كل هذا الحديث عن الذنوب والتتبع الدقيق للأحوال المبنيّة عن عدم الانفكاك من عقوباتها؛ يؤكد على القارئ أهمية التزام الاستغفار وعظيم الإنعام بالهداية. “ولذلك اشتدّت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراطَ المستقيم. فليس العبدُ أحوجَ منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفعَ له منها. فإن الصراط المستقيم يتضمّن علومًا وإراداتٍ وأعمالًا، وتُروكًا ظاهرةً وباطنةً تجري عليه كلَّ وقت.
فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد، وقد لا يعلمها، وقد يكون ما لا يعلمه أكثرَ مما يعلمه. وما يعلمه قد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه، وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه. وما يقدر عليه قد تريده نفسه، وقد لا تريده كسلًا وتهاونًا أو لقيام مانعٍ وغير ذلك. وما تريده قد يفعله، وقد لا يفعله. وما يفعله قد يقوم فيه بشروط الإخلاص، وقد لا يقوم. وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة، وقد لا يقوم. وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه، وقد يُصرَف قلبُه عنه. وهذا كله واقعٌ سارٍ في الخلق، فمستقِلّ ومستكثر.” ص283-284.
فاللهم بصّرنا بمواضع الزلل، وألهمنا التوبة والاستغفار منها كما نُلهم النَّفَس.
______________________________
جمانة بنت ثروت كتبـي
5 / 12 / 1445هـ
مقالات سابقة للكاتب