ليلة (حُبٍّ) تربوية وذكريات تعليمية

فاتحة:
الحب يا سادتي أسمى الشعارات
فليعل كالضوء في أعلى المنارات
*****
هو التسامي عن البغضاء في أدب
هو التلاقي على صفح ومرضاة
*****
هو السبيل إلى العلياء مرتكزاً
على هدىً من أحاديث وآيات
*****
دعوه يسمر فيما بيننا طرباً
ويكتب الصحو في ليل المتاهات
******
دعوه يسلك فيما بيننا سيلاً
لنرتقي نحو أبراج السماوات
*****
الحب يا سادتي روح تسيرنا
إلى المباهج في أرقى العبارات
*****
فهيئوا الأرض لاستقبال زائرها
إن المحبة من أغلى المروءات
 
بهذه المقطوعة هجس خاطري شعراً، وانثال قلمي كتابة لتسجل إحدى اللحظات الزمنية الفارقة في مسيرة الحياة.
* * *
(2) ليلة استثنائية، ليلة حب تربوية، أحييناها في دارة الأستاذ الدكتور المضياف عبدالله الزيد مدير التعليم الأسبق في جدة. ليلة تداعى لها المحبون من التربويين لهذه القامة، لزيارتها والسلام عليها، والاستئناس بشيء من الذكريات التربوية والتعليمية التي تجمعنا زواراً ومضيفاً، ليلة ضمَّت لفيفاً من القامات الإدارية والتربوية من رفاق المسيرة وقادة العمل التربوي والإداري الذين زاملوا إدارة الزيد للتعليم الممتد ما بين 1397هـ -1416هـ. كنا عشرة، وثلاثة من الأبناء وهم:
 
الأستاذ عبدالله الهويمل مدير تعليم سابق.
الأستاذ حامد السلمي  مدير تعليم سابق.
الأستاذ عثمان ملاوي  مدير سابق
الاستاذ أحمد الزيلعي مدير معهد سابق.
الأستاذ عبدالله الصبحي مدير مدرسة سابق.
الأستاذ محمد الجحدلي مدير مدرسة سابق.
الدكتور يوسف العارف مدير إدارة سابق.
الأستاذ سليمان الفواز منسق اللقاء والزيارة مدير إداري سابق.
الأستاذ عبدالحميد الغامدي مدير مالي سابق.
الابن المهندس فواز سليمان الفواز.
وابني الأستاذ عبدالله بدران.
 
وكل هؤلاء ماعدا الأبناء من منسوبي تعليم جدة، وقد ارتدوا ثياب التقاعد ولكنهم لم يرتدوا ثياب النسيان. ولم تبتعد قلوبهم وأرواحهم عمن أحبوه وأحبهم، وألفوه وألفهم.
 
جمعهم (الحب) الذي هو رأس مال لا ينضب ولا تنقطع أفياؤه وتداعياته!! فما إن هاتفهم المنسق القدير المهندس سليمان الفواز حتى أتوه مرحبين ومحبين وداعين وشاكرين.
 
كل العشرة رفقة درب، وزمالة عمل، باعدت بيننا مسافات التقاعد، وجمعنا حب هذا الرجل المضياف أبو نجم/ د. عبدالله الزيد.
 
كل العشرة، نلتقيهم في المناسبات، والاجتماعات إلا اثنين بعدت بيننا المسافات وزادت الشُّقة، منذ أن تقاعدا وابتعدا عن التعليم وهما الأستاذ عبدالله بدران، والأستاذ عثمان فلاتة. وكان وجودهما في ليلة (الحب) التربوية مصدراً من مصادر الجمال والأخوَّة وكانا إضافة رائعة من إضافات المايسترو المنسق المهندس سليمان الفواز فشكراً على كل هذا الجمال!!
* * *
(3) ليلة استثنائية بكل المقاييس ساعة ونصف ما بين المغرب والعشاء، مساء الأحد 18/11/1445هـ وكأنها دهر من الزمن، تكللت بالذكريات والمعلومات التربوية والأدبية، والتفاعلات الثقافية، والمناقشات المعرفية. وقد بدأها مضيفنا الدكتور بحفاوة الاستقبال والترحيب ودارت القهوة والتمور، وأطايب المعجنات والمقبِّلات، وبخور العود والعصيرات تحت إشراف وإدارة الابن الكريم سهيل عبدالله الزيد. فنعم الولد والوالد.. ونعم المكان والمكين.
 
لا أذكر كيف بدأت هذه الأمسية التربوية، لكن بعد الترحيب والسؤال المعتاد عن الصحة والأولاد.. باشرنا الدكتور الزيد بحديثه الماتع عن آخر الكتب التي يقرؤها وهو كتاب: الرويس/ ضاحية جدة/ تاريخ وأحداث لمؤلفه ياسين بن ساعد الجحدلي، وهنا تنحنح الزميل الأديب والصحفي الأريب محمد الجحدلي ليضفي على الجلسة شيئاً عن المؤلف وأنه من أبناء الرويس، وأن هذا الكتاب يؤرخ للحي/ الضاحية الأولى خارج سور جدة والتي سكنها أهل البادية من قبائل حرب.
 
وسرعان ما تداعى إلى ذهني رواية (الرويس) للكاتب الناقد الدكتور سعيد السريحي، فطلبت المداخلة لأدلي بدلوي في هذه الحوارية الماتعة، فقلت أني أذكر قراءتي لرواية (الرويس) لسعيد السريحي التي صدرت عام 2014م = 1435/1436هـ وهي تتحدث عن واقع الحي وفضاءاته القبلية، وثنائية التمدن (داخل سور جدة) والبداوة (خارج السور)، وآلام ومباهج أصحاب الحي ومنهم تلك المرأة التي ظلت تحضن طفلها الميت لمدة ثلاثة أيام حتى لا يرميه البحارة إلى البحر، ومواقف أهل الحي من الوباء الذي أصابهم حتى جعلهم يتساءلون من يتولى مهام الميت من كفن وصلاة ودفن حيث يقول أحد الشخصيات: “ياترى تدفنِّي أو أدفنك يا منصور”!!
 
رواية جميلة وأوصيت الجميع بقراءتها واقتنائها, كما أشرت في مداخلتي إلى حديقة كبيرة كانت في حي الرويس وتسمى (حديقة نسيان) خلف فندق سوفوتيل الحمراء ولها قصة تاريخية يعرفها أهالي حي الرويس ورواها الناقد سعيد السريحي في إحدى كتاباته العكاظية.
 
وانتقل الحديث إلى الجوانب التعليمية والتربوية، حيث استأذنت الجميع في طرح تساؤل على الدكتور الزيد عن كتابة السيرة الذاتية والتعليمية فهو كنز تربوي، وتجربة إدارية متميزة فلماذا يحرمنا ويحرم الأجيال من التتلمذ عليها والاستفادة من خبراتها؟! فكانت الابتسامة ولغة الجسد هي الجواب العملي على هذا التساؤل مؤكداً مقولته القديمة (في فمي ماء)!! ومستدركاً إنها في طور التشكل ولا يدري متى ترى النور!! وأحال الطلب إلى باقي الزملاء الحاضرين ولكل منهم تجاربه التربوية المتميزة وأهاب بكل منهم أن يخرج ولو كتاباً سيرياً مختصراً ومركزاً. وحينها أعلنت للجميع أنني مستعد للمشاركة في أي جهد ثقافي تنويري أو تأليفي واقترحت أن يقوم كل واحد منا بكتابة شيء مختصر عن سيرته وتجاربه وخبراته ونجمعها كلها في كتاب واحد.. ولعلَّهم يفعلون وإنا لمنتظرون!!
 
ثم تحدث الأستاذ عثمان ملاوي عن مدينة الملك سعود العلمية (القصور السبعة) وكيف أهداها الملك سعود للتعليم، وكيف تحولت تلك القصور الفخمة الواقعة على البحر في حي البغدادية إلى مدارس إعدادية وابتدائية وإدارة تعليمية قاد العمل الإداري فيها كل من الأستاذ عبدالله بوقس ثم الأستاذ عبدالله الحصين رحمهما الله ثم الدكتور عبدالله الزيد في بداية عمله في المنطقة مديراً عاماً للتعليم بالمنطقة الغربية.
 
وهنا يتذكر الدكتور الزيد أن مكتب مدير التعليم كان يشغل إحدى الغرف الرئيسة من إحدى القصور السبعة!! وأنه بعد فترة طويلة جاءتهم مطالبات بإخلاءها لكن الدكتور الزيد وإدارة التعليم أصروا على أن هذه القصور قد أهديت من الملك نفسه للتعليم وأنها أصبحت من أملاك الدولة ولا يحق المطالبة بها إلا من الجهة الرسمية.
 
وفي هذا السياق علقت على هذه الحادثة التي تكررت في عهد الدكتور خضر القرشي وأحالها للقسم الهندسي الذي كلف أحد الموظفين وكان عنده الملف كاملاً وهو عبدالقادر باصهي لمتابعة الموضوع في المحاكم حتى ربحنا القضية واستمرت القصور السبعة في ملكية تعليم جدة حتى اليوم!!
 
وقد أكد الأخ سليمان الفواز، هذه المعلومة، مشيراً إلى أنه عاصر القصور السبعة/ مدينة الملك سعود العلمية في نهاية إدارة الأستاذ عبدالله بوقس وبداية إدارة الأستاذ عبدالله الحصين الذي اختاره ليكون مديراً لمكتبه بعد مناقشات وحوارات عديدة جاء في سياقها عبارة (الفراش النظيف) وهو مصطلح إداري عتيق غير متداول إلا في ثنايا الحديث عن السكرتارية وأعمالها والمهام المنوطة بصاحبها!!
 
وفي خضم الحوارات والمناقشات التربوية جاءت سيرة الأميرين خالد بن فهد بن خالد ومحمد العبدالله الفيصل وجهودهما في وزارة المعارف أيام الوزير عبدالعزيز الخويطر، والمشاريع التربوية التي نجحت في عهدهما وبجهودهما ومنها المباني المدرسية العاجلة، والتغذية المدرسية الطلابية، والبعثات الصيفية لمديري المدارس في دورات تدريبية خارجية. وقد أجمع الحاضرون على القيمة التربوية والإدارية لهذين الأميرين في كثير من النجاحات لوزارة المعارف حينما كانا من منسوبي الوزارة وأثنينا (جميعاً) على جهودهما وما قاما به من مشاريع تربوية لافتة زمنياً وتاريخياً، وأن لهما بصمة إنسانية تذكر وتشكر في تاريخ المسيرة التعليمية للمملكة العربية السعودية.
 
وفي هذا السياق أشار الزميل محمد الجحدلي إلى موقف تربوي عميق يُرْوَى عن الأمير خالد بن فهد بن خالد، فقد جاءه أحد كبار السن من نواحي بلادنا الجنوبية ودخل عليه في مكتبه بالوزارة حافياً ومتأبطاً حذاءه احتراماً للمكتب وفراش المكتب حتى لا يدنسه وبدأ يتحدث مع الأمير بجلافة وأن قريته محرومة من التعليم لا مدارس ولا معلمين!! فما كان من الأمير إلا احتواء الرجل لكبر سنه والتلطف في الرد عليه، وأوصى بتشكيل لجنة للوقوف على مطالب الرجل وحل هذه المشكلة عملياً. وتم ذلك فعلاً.
 
وانتقل الحديث بعدها إلى مراتع التعليم الأولي فقد كنا ثلاثة من خريجي مدرسة دار التوحيد بالطائف: الدكتور عبدالله الزيد، والأستاذ عبدالله الهويمل، و(أنا) كاتب هذي السطور. وفي إطار الذكريات رويت لهم أول مظاهرة طلابية قام بها طلاب الدار، حيث تنادى كبار الطلاب بالصف الثالث الثانوي وأغلقوا أبواب المدرسة بالأقفال والسلاسل وقادوا مسيرة طلابية نحو إدارة التعليم اعتراضاً على تأخر المكافآت!!
 
وهنا يضيف الأستاذ عبدالله الهويمل أن طلاب الدار لهم سوابق وخبرة في هذه الإضرابات، ويذكر ما قام به هو وزملاؤه طلاب الصف الثالث متوسط بدار التوحيد، حيث أضربوا جماعياً عن أداء الاختبار عندما تأخرت مكافآتهم وقد اتفقوا جميعاً (6 فصول ثالث متوسط) أن يسلموا أوراق الاختبارات فارغة ولا يكتبوا فيها حرفاً واحداً. وتم تنفيذ هذا الاتفاق الغريب!! وقد استطاعوا بهذه الطريقة لفت نظر الإدارة المدرسية والتعليمية إلى ضرورة صرف المكافآت في مواعيدها.
 
ولما جاءت سيرة مدرسة دار التوحيد بالطائف، تداعت إلى ذاكرة الأستاذ عثمان ملاوي، أنه من طلاب المدرسة الخالدية الابتدائية بمكة المكرمة وأنه زامل الدكتور الزيد فيها وراحا يتساجلان الذكريات، ويتبادلان المواقف والمشاركات ولطائف المعلمين وطرائف الطلاب المساكين!!
 
وفي هذا السياق أشار أحد الزملاء لا أذكر اسمه ما حصل من طلاب معهد المعلمين بالطائف من مظاهرة، ومسيرة طلابية للمطالبة بالمكافآت المتأخرة.
 
ويذكر أستاذنا الزيد حادثة شبيهة بهذه المظاهرات التي سببها تأخر صرف المكافآت، أنهم كانوا في كلية الشريعة بمكة المكرمة وكان يزاملهم الأستاذ موسى السليم ومرت عليهم شهور لم تصرف فيها الرواتب فذهبوا للشيخ عبدالله بن حميد يشتكون الوضع ويطالبونه بالتداخل لدى المسؤولين في الكلية. فتقدم موسى السليم للحديث عن زملائه، وكان حليق اللحية والشيخ ابن حميد كفيف البصر، ولكن مرافقه أشعره بأن هذا الطالب المتحدث حليق اللحية بإشارة بينهما متفق عليها. فما إن أنهى موسى السليم حديثه، قال له الشيخ أأنت من طلاب الشريعة، قال موسى السليم نعم، قال الشيخ وأنت حليق اللحية؟! فأسقط في يده وكيف عرف الشيخ وهو كفيف؟! وسرعان ما ألهمته الفطنة والذكاء، فأخذ بيد الشيخ ووضعها على صدره وقال يا شيخ الإيمان هاهنا.. وليس في اللحية فأعجب الشيخ ابن حميد بهذه الإجابة وهذه الحصافة، فوعدهم خيراً وتدخل في الموضوع لدى مسؤولي الكلية وصرفت الرواتب!!
 
لم تنته هذه السويعات بعد!! فلازالت الأحاديث تترى والذكريات تتنامى ليتحدث كل من الأساتذة أحمد الزيلعي، والأستاذ حامد السلمي والأستاذ عبدالله الصبحي والمهندس سليمان الفواز والأخوين عبدالله بدران وعبدالحميد الغامدي.
 
وكل يحمل في ذاكرته أنواراً تربوية، وكنوزاً إدارية من الخبرات والتجارب!! وما أجدرهم بتسجيلها ونشرها ففيها من الفوائد المجتمعية والدروس الحياتية ما يحتاجها الجيل الحالي والأجيال القادمة.
 
ختــــــام:
وما إن سُمِعَ أذان العشاء، حتى تقدم الزميل الأستاذ عبدالله الهويمل مستأذناً لنهاية اللقاء وتوديع مضيفنا الدكتور الزيد الذي قضينا معه أمتع الأوقات وأجمل الذكريات فمجلسه لا يُمَلْ وحديثه عَسَل، ولقاؤه من مكاسب الأبد والأزل، ولا أملك إلا أن أختم بهذه الأبيات الشعرية أهديها لمضيفنا ولرفاق الزيارة…

في كل مجلس علم نلتقي نفراً
هم الضياء وهم زهر البساتين

*****

سماتهم أنفس ترنو لخالقها
وتشرئب على حبٍّ وتمكين

*****

في الله زاروا حبيباً كان قائدهم
قد ارتقى بالتقى والعلم والدين

*****

فيا أبا (نجم)… هذا الحبُّ جمَّعنا
ويا أبا (سهيل) كن في القلب والعين

والحمد لله رب العالمين.
 
جــــــــــــــــــــــدة
من صباح الاثنين 19/11/1445هـ
إلى مساء الاثنين 4/12/1445هـ


 
مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “ليلة (حُبٍّ) تربوية وذكريات تعليمية

محمد حامد الجحدلي

شكرا للدكتور يوسف حسن العارف الذي أضاء هذه الجلسة التربوية بحروفه ونقاء قلبه العامر بالمحبة مع الجميع لقامات لها من المكانة ما تستحقه وهو في طليعتهم واستطاع أن يهذِّب بعض المواقف بعذب كلامه ورشاقة قلمه ومنابع أدبياته فتلك هي سماته التي عُرف بها فتحية تقدير واعتزاز بأبي سلطان العارف الحسن الفطن.
* محمد حامد الجحدلي
جدة – ٢٠٢٤/٦/٢٣م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *