تعال إلى حيث الحكمة !!

تلازمنا الآية الكريمة‏ {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} كلما أردنا أن نتحدث عن الحكمة.

ولعلَّ الحكمة مُبْتَغى الكثير،قليلٌ بالغها.

وهذا ما قاد عالما النفس (فيفيان كلايتون)،و (جيمس بيرين) إلى تقديم ورقة بحثية رائدة نُشرِتْ عام 1980 حيث وضعت هذه الورقة الإطار المفاهيمي للحكمة المكون من ثلاثة نطاقات يدعم بعضها البعض:
الأول:إدراكي،ويتعلق بالمعرفة والفكر.
الثاني:وجداني،ويتعلق بالعاطفة والمشاعر.
الثالث:تأمُّلي،وهو يتجاوز مجرد التأمُّل المحضّ،حيث يتعلق بالقدرة على النظر إلى نفسك والحياة من منظور مختلف.

والبُعْد التأمُّلي هو الأكثر أهمية من بين الأبعاد الثلاثة؛لأنه هو الذي يُوصّل صاحبه إلى البعدين الآخرين.

ولا يكفي الإنسان مجرد معرفته بهذا الإطار المفاهيمي،بل عليه أن يجتهد في إعمال عقله،وتهذيب نفسه،وترويض جوارحه؛حتى يسلك السبيل الموصل للحكمة عبر ثماني استجابات جُمعتْ في ثلاثة أبعاد كما ورد في تقرير السعادة العالمي لعام 2013 :
-البعد الإدراكي:(نظرة مناسبة،نية مناسبة)
-البعد الأخلاقي:(حديث مناسب،تصرف مناسب،مصدر رزق مناسب)
-البعد العقلي:(جهد مناسب،انتباه مناسب،تركيز مناسب)
وبالتالي فإن الحكمة تتكون من محتوى شامل يتضمن مجموعة من السمات،وتأثيرها الساحر يكمن في دمج تلك السمات،بحيث تدعم وتثري بعضها بعضاً.

فمثلاً،يمكن أن يكون الشخص لديه الكثير من القدرات العقلية دون أن يكون لديه قدر كبير من التعاطف،ويكون أكثر ذكاءً وخبرةً،لكنه متلاعب مراوغ؛فهو غير حكيم.

أما الشخص الذي لديه الكثير من العاطفة،وينقصه الكثير من التأمُّل؛فسيكون كريماً عطوفاً،لكنه متهور وغير عملي؛فهو غير حكيم.

والشخص الذي لديه الكثير من التأمُّل،لكنه قليل المعرفة؛يمكن أن يكون وقوراً،لكنه ساذج؛فهو غير حكيم.

والحكمة بهذا التصوُّر،يتطلب بلوغها أن يكون لدى الإنسان القدرة على الاحتفاظ بالتوازن العاطفي والفكري،وأن يكون أكثر هدوءاً،وأن يتصرف ببصيرةٍ متناهية وفق قراءة واعية لسياق الأحداث،وأن يكون قادراً على حُسُّن التقدير في خضم عدم اليقين والالتباس،فالحكمة تميل إلى التحلي بالصبر والاتزان،وأن يحتفظ الإنسان بعقله في الوقت الذي يفقد فيه من حوله عقولهم.

وهذا من شأنه أن يجعل الحكمة أن تكون فعَّالة،ولا تقف على كونها مجرد أفكار،أو عبارات إنشائية،بل يجعلها أفعالاً وواقعاً ملموساً على أرض الواقع.

فالفعل يعتبر مكوناً أساسياً من الحكمة،وإلّا من الممكن أن يفكر الإنسان بحكمة،لكنه لن يكون أنموذجاً حيّاً للحكمة حتى يتصرف بطريقةٍ حكيمة.

وهو بهذا ينتقل من مجرد التفكير بحكمة إلى التصرُّف بحكمة.

ويعضد هذا الانتقال انتقالٌ نحو التناغم المجتمعي،ومصلحة الناس ونفْعهم،والتسامي فوق المصالح الشخصية.

ومع أن العمر والحكمة يسيران باستمرار بمحاذاة بعضهما،إِلَّا أن الملاحظ أننا نخفق في العبور نحو الحكمة مبكراً -بالرغم من كونها وردت في القرآن الكريم 20 مرة،ومَجَّدَ الباري عزَّ وجل نفسه بصفة الحكيم 91 مرة،وأنها هي البشارات الكبيرة لبلوغ الأهداف،وتحقيق الغايات الإنسانية السامية- وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى إمكانية أن تنفق المدارس المزيد من الوقت والجهد لتعليم النشء أدوات الحكمة بدلاً من الاكتفاء فقط بتكريس جهودها في كيفية اجتياز الاختبارات المعيارية.

سليمان مُسْلِم البلادي
@solimanalbiladi

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *