🖋️ يطيب لبعض الكُتّاب الاستسلام لعدم القدرة على التعبير عن مشاعر الفرح البليغ ولحظات الأُنس الشديد، لا بالكلمات المنطوقة ولا بالأسطر المكتوبة، فيميلون لعيش اللحظة حينها دونما رغبةٍ في محاولة مشاركة أو تخليد، في حين أنهم أنفسهم يجدون في زمن الحزن دفقة استفزاز قويّة؛ تؤزهم للتأمل فيه ثم البوح بعجائبه!
والحزن حقيقٌ أن ينال حظّه في هذا السياق. فيا سبحان الله! كيف لشيء يتحشرج في الصدر من الضِّيق أن يتبعه سيلٌ حارٌ من الدَّمع؟ كيف وجدت هذه القطرات السائلة سبيلًا للتجمّع في ثوانٍ؟ وكيف أمكنها أن تُضرِم النار فتُسخّن محجر العين في لحظة؟ وكم لها من القوّة حين تَكثُر؛ حتى تؤلم الرأس وتُورِّم العينَين؟ وما تلك المجاهدة في النَّفَّس حتى يضطر المرءُ معها لإعادة ضبط شهيقه وزفيره ليعود إليه رُشده؟
لقد أمسكَ شاعرٌ بلحظةِ حزنٍ بشرية؛ فقال:
الحُزنُ يُقلِقُ وَالتَجَمُّلُ يَردَعُ ….. وَالدَمعُ بَينَهُما عَصِيٌّ طَيِّعُ
يَتَنازَعانِ دُموعَ عَينِ مُسَهَّدٍ …. هَذا يَجيءُ بِها وَهَذا يَرجِعُ
وكأنما يخرج عقل الإنسان من عِقاله! فتتالى على رأسه الأحداث والذكريات، كأنما قرّرت بإجماع أن تحتشد عليه الساعة، مصرّة عازمةً على إيقاد كلِّ ما يضاعف ألم حزنه، فيتذكّر المرء ما كان، ويستطرد فيتخيّل ما سيكون؛ لو لم يكن ما كان! وكلما كثرت عليه الذكريات والخيالات؛ اشتدّت على قلبه سهام الحسرات، حتى لا يجد لروحه بثًّا إلا ما يزفره من الآهات! لكن.. إن آبَ إليه رُشده وعاد؛ فسيعلم أن النِّعمة العُظمى حينها في حُسن بثّه إلى الله دعاءً، أو الأُنس بكلامه تلاوةً.
ولم يخلُ كتابنا العظيم من ذكر الحزن، لا باعتباره محمودًا ممدوحًا، بل باعتباره مظهرًا من مظاهر الضعف البشري، والذي ينبغي حسن التصرف معه. “فالحزن ليس بمطلوب، ولا مقصود، ولا فيه فائدة، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم”، فالحقيقة أنّ “الحزن من لوازم الطبيعة ولكن ليس هو بمقام” تعبّدي ولا درجةً فاضلة يُحرص عليها أو يُسعى إليها! ولذلك “لم يأتِ الحزن في القرآن إلا منهيًّا عنه أو منفيًّا” [مدارج السالكين، لابن القيم]. فنُهيت عنه أم موسى؛ فقيل لها: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} [القصص:7]، ونُهيت عنه مريم؛ {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24]، وأخبر تعالى عن مدى حزن يعقوب ومُصابه في يوسف وأخيه -عليهم السلام جميعًا- إذ توّلى عن بقية بَنيه {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، وغير ذلك من الأخبار التي إن لم تنهَ عن الحزن أو تُخبر بانتفائه، فإنها تُقرر وقوعه إمعانًا في الإبانة عن الطبيعة البشرية، وأن بني آدم لا ينفكّون عن الحزن، ولكن ينبغي عليهم ألّا يتطلّبوه ولا يُمعنوا في البقاء فيه. وعلى هذا ففي كل خبرٍ لمحزونٍ في الكتاب مواساةً لغيره من المحزونين وسلوًى للبكّائيين.
ونُفي الحزن عن أهل الجنة، فليس الأمر أنهم يتمتّعون بما يشتهون فحسب، بل الحزن بأصنافه وألوانه منفيٌ عنهم! فقال عزّ وجلّ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] “فنفى عنهم مباشرة العذاب وخوفه، وهذا غاية الأمان. فلهم الأمن التامّ، يصحبهم حتى يُوصلهم إلى دار السلام، فحينئذٍ يأمنون من كل سوء ومكروه، وتجري عليهم نضرة النعيم، ويقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].” [تفسير السعدي]
وهذه الآية الأخيرة أكثرُ نصوص الوحي دهشةً عن الحزن عندي، والتي كلما وصلتُ إليها لابد أن أقف عندها ولو بُرهة؛ استشعارًا لعظيم المعنى، وطمعًا في نيل الـمِّنة! الـمِّنة التي سُعد بها أهل الجنة ضمن كثيرٍ مما سُعدوا به، فحمدوا لأجلها اللهَ تعالى حمدًا خاصًّا صريحًا، فقالوا فيما يذكر عنهم القرآن: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
فماذا في هذه الآية من العُلوم الأُخروية عن حال أهل السَّعادة الأبديّة؟
“{و} لما تمّ نعيمهم، وكمُلت لذّتهم {قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وهذا يشمل كل حزن، فلا حزن يَعرِض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم وشرابهم، ولا في لذاتهم ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدًا، وهو في تزايد أبد الآباد. {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} حيث غفر لنا الزلات {شَكُورٌ} حيث قبل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا، فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب، وبشكره وفضله حصل لهم كل مرغوب محبوب.
{الَّذِي أَحَلَّنَا} أي: أنزلنا نزول حلول واستقرار، لا نزول معبر واعتبار. {دَارَ الْمُقَامَةِ} أي: الدَّار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يُرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسرّاتها، وزوال كدوراتها، وذلك الإحلال {مِنْ فَضْلِهِ} علينا وكرمه، لا بأعمالنا، فلولا فضله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي: لا تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى، ولا في كثرة التمتّع، وهذا يدلّ على أن الله تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة، ويُهيّئ لهم من أسباب الرّاحة على الدّوام، ما يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نَصب ولا لُغوب، ولا همّ ولا حزن.” [تفسير السعدي]
أليس أهل الإسلام في غبطة على ما في كتابهم من أخبار وعلوم، وسلوى وذكرى؟ أليس الحزن عنهم ببعيد كلما استحضروا هذه الآيات البيّنات، وكلما ذكّروا أنفسهم بما يترتب على الصبر والاحتساب من الحسنات؟
نعوذ بالله من الحزن والهمّ والجزع والسخط، ونسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من أوليائه الذين لا خوف على مآلهم ولا هم يحزنون.
جمانة بنت ثروت كتبي
15 / 1 / 1446هـ
مقالات سابقة للكاتب