كنت في نقاش ممتع مع إحدى السيدات الفاضلات التي اعرف تدينها وخلقها وطيبتها وبرها بوالديها وزوجها وابنائها جزاها الله خير الجزاء كنا نتناقش في دور الوالد وواجباته وحقوقه وكذلك حقوق الأبناء وادوارهم ثم ارسلت لي مقطع فيديو يتضمن بعض الأحاديث عن فضل الإنفاق على الاهل والأبناء ، قال رسولُ اللَّه ﷺ: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ رواه مسلم.
(أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله)(رواه مسلم).
(كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)
وان الإنفاق على الاهل والأبناء فرض عين
فاجبتها سيدتي صدقت فكل الأحاديث التي ذكرت في المقطع صحيحه ولكن يجب أن نفهم حقيقة ومعني هذه الاحاديث ومقاصد النبي ﷺ والشريعه في دور الاب ومهمته واهميته تجاه اهله وأبنائه، اما ان نختزل هذه العلاقه الساميه ونراها فقط علاقة ماديه تقتصر على الانفاق فقط، فإننا لم نفهم معني الابوه وعظمة هذه الامانه والرعايه فهي اعظم من ذلك بكثير.
انها اعظم استثمار يقوم به الاباء تجاه ابنائهم ليربحوا ويفوزوا بخيري الدنيا والاخره.
فالعلاقة بين أفراد الاسره والأهل والأبناء علاقة ساميه تدخل في العبادة العظمى التي اوجدنا الله واستخلفنا لها في هذا الكون وهي اعماره وجعله صالحا للحياة حتى ننشر دينه ويعبد الله وحده الي يوم القيامه قال تعالى :
(ثُمَّ جَعَلناكُم خَلائِفَ فِي الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ).
(وَإِلى ثَمودَ أَخاهُم صالِحًا قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها فَاستَغفِروهُ ثُمَّ توبوا إِلَيهِ إِنَّ رَبّي قَريبٌ مُجيبٌ).
وتكوين الاسره في الاسلام هو وسيلتنا السويه التي ارادها الله لنا لإيجاد الأبناء الصالحين جيلا بعد جيل ليكملوا مهمة ابائهم لإنشاء مجتمع صالح يعمر هذا الكون ويحقق مراد الله عز وجل في الأعمار.
ولكن متى تبدأ هذه المهمه ومتى تنتهي وقد وجدت بعد هذه السنين في الحياة ان
المسئولية العظمى للاب هي البناء الكلي للأبناء روحيا وايمانيا وخلقيا وتعاملاتا وعبادات، لان بناء الأبناء دوره الحقيقي الذي يبدأ من الولاده ولكن لا يراه ويميزه الأبناء لصغر سنهم حتى تبدأ مهمتهم ويصبحوا اباء ليفهموا هذه المهمه العظيمه.
وأهمها
اولا . الدين
وهو بناء العلاقة بينهم وبين خالقهم حبا فيه بإيمان واحسان كما يريد وكيفما يريد ربنا ويرضى على نهج سيدنا محمد ﷺ القائل :
( كل مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه)
انها ام المسئوليات وأساس الوجود واستكمال الفطره البشريه بمعرفة الخالق سبحانه وتعالى وعظمته وقدرته وتوحيده بإيمان خالص ليكون حبه في قلوب الأبناء غاية الوجود وكل الحياة فينعكس ذلك على جوارحه استسلاما وتذللا وتعبدا كما يحب ويرضي وتجنبا لما يغضبه املا في لقائه في الفردوس الاعلي ورؤية وجهه
الكريم وهي مهمة متواصله لجميع مراحل الحياة لا تنتهي الا باجتماعهم في جنات ونعيم مقيم.
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾
وهذا الوعد مصداقا لما جاء أيضا في قوله عز وجل :
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) الرعد
( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) الزخرف
ثانيا. التربيه
ثم من اعظم المهام بعد الدين التربيه وهي ان يساعدهم على بناء حياتهم الدنيويه لتكون كلها لله وتنقسم الي
1 . بناء الاخلاق والقيم النبيله ولو تدبرتم كتاب الله لوجدتم ان 25 % منه آيات في الأخلاق لأنها اساس بناء شخصية الأبناء للتعامل في المجتمع بحب وصدق وتواضع وأمانة واكرام وايثار وكافة الاخلاق
الحسنه حتي يبنى سمعته الطيبه في المجتمع ليكون فخرا ومعلما لابنائه تورثهم احترام وتقدير مجتمعهم فعندما يسأل الابن في اي محفل ابن من انت فيقول ابن فلان فيقال له رحم الله والدك كان نعم الرجل فيتسابقون لمصاهرته فتتزوجون بسمعة ابيكم وتعملون وتحترمون وتقدرون بسمعة ابيكم فتكونوا دعاة الي الله باخلاقكم
2. وقيم التعاملات والمعاملات انها مجموعة القيم التي تنظم التعاملات بين الافراد والمجتمع ويزرع فيهم مفهوم اعمار الارض ودور كل إنسان ودوره للتكامل والتعاون مع مجتمعه فلا يستطيع انسان ان يعمل لوحده ويحب لأخيه ما يحب لنفسه فلا يظلم ويدافع عن المظلوم ويتوخى العدل والانصاف والتكافؤ لا فرق بيننا الا بالتقوى، فلا يعمل الا في حلال ولاياكل الا من حلال وان الربح يكفي الجميع وهو مكتوب سواءا كسبه حلالا او بالسرقه والفهلوه كما يقال الان للخداع والتدليس والنصب .
3 . البناء الاقتصادي وان المال مال الله وأننا مستخلفين فيه يختبرنا أهمية المال بالإنفاق المنتج واهميته ودوره في إثراء الاقتصاد القومي والمجتمع والنفع الشخصي، ليكون في سبيل الله.
قال تعالى :
﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾
ولا اتحدث هنا فقط عن الصدقات فقط لان الأصل في الاسلام ان لا مال راكد في الاسلام والمال ان ركد يتناقص بالزكاة ولذلك حرم الكنز بكل صوره وأشكاله سواء كنز في البنوك او كنزه في اراض بعيده لا أحد يستفيد منها بانتظار ان يرتفع سعرها بعد عشرات السنين فاراه من الكنز فتكونوا دعاة الي الله بتعاملاتكم
ولن تصدقوا ان آيات القرآن في التعاملات
تمثل 74 % من القران.
فبهذه الاخلاق والتعاملات والمعاملات تكونوا قدوة لغيركم وخير سفراء لدينكم
وتذكروا ان بعض تجار المسلمين ادخلوا الاسلام الى وسط أفريقيا والهند وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وكثير من أجزاء الهند الذين يمثلون اليوم غالبية المسلمين في العالم.
ثالثا . الإبداع وبناء العقليه الشخصيه والجسميه
1. وهي مجموعة القيم التي تبلور عقليه وشخصية الأبناء وتحثهم على أعمال العقل الذي هو مركز الإبداع في الإنسان فالله يخاطبنا في القرأن الكريم بقوله :
يعقلون في 22 آية، تعقلون في 24 آية، الألباب في 16 آية، الأبصار في 9 آيات) كما أشار إلى الفكر والتفكير تحت كلمات مثل (يتفكرون في 10 آيات، تتفكرون في 3 آيات)
لذا من أوجب مهام الاب زرع قيم التفكير للابداع والتميز كالمبادءه والاقدام بدون مخاطره وحل المشكلات والمرونه والتاثير وإدارة الوقت وجودة الانتاج والابتكار والابداع سواء في كيفية أداء العمل بأقل
وقت وتكلفه. عن طريق نقل خبراته وتجاربه ومهاراته في الحياة لتبدأوا من حيث انتهى دوره ليتعلم ابناءه كيفية التصرف في كل المواقف ليكونوا منتجين ليساهموا في اعمار الارض ويتركوا اثرا وصدقة جارية بعد مماتهم
2. البناء الجسدي
يقولون الجسم السليم في العقل السليم وهي وان كانت مقولة خاطئه فليس كل جسم قليل او مريض لا يملك عقلا سليما بل قد يكون مبدعا الامثله كثيرة جدا لسنا بصددها اليوم.
ولكنها مقولة لزيادة اهتمام الإنسان بجسمه ليبنيه جيدا كما بنى عقله،
▪️بالغذاء الحلال فلا يدخل الاب بيته الا حلالا وتذكروا دائما تلك المرأة الصالحة التي توصي زوجها حين يخرج للكسب قائلة: اتق الله فينا ولا تطعمنا حراما، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
في بالجسم الذي يحمل هذا العقل
▪️ لايدخل الاب لبيته الا النافع من
الخضار والفواكه المزروعه طبيعيا واللحم ليبني جسم أبنائه صحيا ويتجنب الضار مثل الزيوت المهدرجه والمشروبات التي تحتوي على نسب عاليه من السكر والنشويات التي تتحول إلى سكر والملح الصناعي اي يتجنب ما يبني احسام أبنائه ويكسبهم مناعة ذاتيه
▪️الرياضه وخاصة في هذا الزمن الذي ابتلى الأبناء فيه بالألعاب الاليكترونيه التي تضل الأبناء دينيا العاب الدوس على القرأن لينتقل الي المرحله التاليه واخلاقيا بان يقتل او يسرق السيارات حتى يتجاوز المرحله فعندما تتجول بالأسواق ترى أطفال كثير مصابين بالسمنه واطفال صغارا مصابين بالسكر حمانا الله وإياكم.
رابعا. الإعداد العلمي
وهي مسيرة مستمره تبدأ بتعليم أبنائه كيف يخططون نجاحهم في الدنيا بعد الاخره وكيف ينشأهم ويوجههم للنجاح والتفوق
1 . فيتعرف الاب بعلمه وخبرته حاجة الأمه المستقبليه من التخصصات التي يحتاجها المجتمع للاعمار.
2 . ثم يبدأ بتوجيه أبنائه لحب هذه التخصصات وتشجيعهم لاكتسابها وفق قدراتهم ورغباتكم.
3 . ثم يوجههم لدراستها والتخصص فيها واكتساب مهاراتها وكيفية التعامل بها ليبدعوا في التطبيق وترك أثر يكون لهم صدقة جارية بعد مماتهم.
ويستمر الاب بممارستها من الصغر الي ان يموت وهو يوجه ويعلم ويبني شخصية أبنائه حتى يكونوا قادرين على التعامل بفعاليه في المجتمع، ويكونوا ناجحين في حياتهم العمليه ويساهموا في الانتاج وبناء اسرهم والانفاق عليها .
خامسا. الإنفاق
ولن اتحدث عنها لأنها من المسلمات ويحكمها إمكانيات الاب وعدله في الإنفاق وعدم الإسراف وتعلم فن متى يقول لا ومتي ينفق فالانفاق تربية تصقل الشخصيه وتعلم الأبناء فقه الحاجه وفقه
الأولويات والتدبير.
سادسا. المهام الخفيه
وكثير من المهام التي قام ويقوم بها الاب لا يعرفها ولا يقدرها الأبناء اما لصغر سنهم او لانه لا يعرفون مغزاها ومعناها الا بعد ان ياتي دورهم في بناء اسرهم ثم يرزقهم الله الابناء فيفهمون الدور الخارق لابيهم في التربيه
واجمل وصف وصفه احد الأصدقاء اننا من يوم ان تزوجنا أصبحنا ( نجاود) عندهم باللهجه الحجازيه اي اننا نعمل خدما لدى ابنائنا.
وهذه حقيقه فالاب ينسى كل رغباته وحاجاته ليوفرها لابنائه، وهو يفني عمره ليعيشوا برخاء وسعادة وهو اسعد البشر عندما يرى أبنائه دينين ناجحين متفوقين حتى عليه بل يريدهم افضل منه.
فقد كان يعمل ليل نهار يسهر ليطبب ويمرض حتى شفائكم ، ويتحمل جميع انواع البشر الذين تعامل معهم في حياته منهم الجيد ومنهم السيئ ومنهم من يحاول سرقته وخداعه وكم لاقى من ظلم
بعض البشر وغمط حقوقه والتنافس الغير شريف والغيبه والنميمة عليه ومن يريد أن يتسلق على اكتافه بسرقة أفكاره وجهده وانجازاته وغيرها من المصاعب في هذه الحياة القاسيه وخاصة في هذا الزمن .
وهو صابر بدون شكوى وتذمر لاجلكم لكي تعيشوا بسعادة وهناء قدر استطاعته ثم نختزل دوره في الإنفاق فقط.
وتذكروا ابنائي ان اكثر شيئ يؤلم الاب في شيخوخته ان تنظر له عائلته انه بنك العائله فقط مهمته في الحياة أن ينفق عليهم ولا يحق له الراحه التي ينتظرها بعد ان افني شبابه في خدمتكم .
🔶 الرسالئل القاتله :
▪️وياتي الابناء بعد ان رزقهم الله المال والمنصب بفضل الله ثم بجهوده في تربيتهم وتعليمهم وسمعته وعلاقاته وماله ويحاولوا ان يوصلوا للاب الرساله القاتله، انت كبرت ونحن كبرنا وانت لا تفهم عصرنا رغم ان الاب يفوقهم تعليما وخبرة وقد تخرج بامتياز في دراساته العليا.
▪️وحتى عندما يقترح شيئا في تربية احفاده يقول له ابنائه ارجوك دعنا نربي ابنائنا كما نريد فالعصر تغير، ونسوا انهم يحدثون من رباهم جميعا حتى صاروا ما هم عليه الآن.
▪️حتى في مشاريعهم التجاريه التي ساعدهم في إنشائها بماله وجهده يغرسون سهما في مقتله، بان العالم تغير والاساليب القديمه لم تعد صالحه لزمننا.
والله يقول
( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا )
أليس هذا اعظم من ( الأف) في الايه الكريمه وهو نهى مغلظ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ولكن اتذكر قول امي رحمها الله
الدنيا سلف ودين
حتى دمعة العين
اعمل ما شئت وكما تدين تدان .
فالاب ينتظر الإحسان والبر كما احسن إليكم طوال عمره.
والحمد لله ان اكرمني الله بابناء برره جزاهم الله خيرا وجمعني بهم في الفردوس الأعلى من الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.
عبدالله بن مالك مسعودي
مقالات سابقة للكاتب