🖋️ بدأت قصة السعدي مع النبوغ في وقت مبكِّر للغاية، فقد كان يحمل بين جنبيه نَفسًا متطلعة تواقةً للمعارف، وكانت قدراته الذهنية تتجاوز حدود الإمكانيات المعرفية التي تجود بها قريته الصغيرة، بل حتى الكوادر العلميَّة التي صادفها في طريقِه لم تكن في مستوى المواهب التي تضمُّها كنانة هذا الفتى المشغوف بكثرة المطالعة.
ولذلك فإنه بعدما وضع يدَه على مفاصِل النتاج المعرفي القريب ظلَّت نفسه تجول في الأرجاء تنشد مزيدًا من الفضاءات المعرفية، فاختطّ لنفسه طريقًا علميًّا خاصًّا يتجاوز ما تسمح به حلقات الدرس في ضواحي عنيزة، وهو طريق ممتدٌّ طولا في الزمان وعَرْضًا في المكان، فهو يختزل المراحل الزمانية إلى حيث تراث ابن تيمية وابن القيم، وهو يختصر المسافات الجغرافية إلى حيث نتاج رشيد رضا ومجلة المنار، فكانت القراءة الجادّة في جميع الكتب والمجلات المتاحة تلك الحقبة ملاذَه الآمن ونافذتَه لتجاوز الأسوار المعرفية القريبة.
وقبل مرحلة الشغف المعرفي ذكرت أخت السعدي قصة لطيفة عن طفولة الشيخ، وهي أن والد الشيخ إذا قال لعبدالرحمن: سوف أذهب بك إلى الدراسة. أخذ يبكي ويمتنع عن الذهاب. ثم يقول والده بِأسى: هذا الولد إذا أطرينا له الدراسة قعد يبكي، لكن الله المدبِّر! وفعلا دبَّر الله شأنه فشرح صدره للدراسة والإقبال التام على العلم بما لم يتح لأحد في زمانه! وقد كانت العرب تقول: أكرم الخيل أشدُّها خوفًا من السوط، وأكيَس الصبيان أشدُّهم بغضًا للمعلِّم.
وإذا كانت كثير من المواهب لا تثمر لتخلف الإرادة، وكثير من الإرادات لا تنتج لتخلف الموهبة، فقد كان هذا الشابّ المثابِر مِثالا عمليًّا لاحتشاد قوةِ الإرادة مع جلالةِ الموهبة
وإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرة
بَلَغَتْ من العلياء كلَّ مكانِ!
وحينما لمح لِداتُه وأقرانه توهُّجَه العلمي ثَنوا ركبهم الصغيرة وتتلمذوا عليه وهو بعدُ في مرحلة الصِّبا قد ناهز الاحتلام، وظل هذا الفتى صامدًا على ذلك النفع والعطاءِ منذ ذلك الحين حتى فارق الدنيا.
ومن تمام توفيق الله للعبد أن يجعله عازِفًا عن التصدُّر، ميّالا لمرافئ الخمول، وهكذا كان السعدي في بواكيرِ عطائه، فلم يكن حفيًّا بهذه الصدارة المستحقَّة، وإنما كان من شأنه أن يُدرِّس بعض الطلاب في زاوية بعيدة في المسجد، قصيَّةٍ عن نظر المارّة، ثم إذا أقبل أحد من الخارج أومأ الشيخ لطلابه قائلا: اجلسوا إلى جانبي. ثم يتبادل معهم أطراف الحديث، كأنهم كانوا يتحدثون ولا يدرسون، وكلُّ ذلك خوفًا من كثرة المرتادين للدرس، وعزوفًا عن التصدّر.
زاويتان متقابلتان:
كان السعديُّ كثيرَ الشغف بطلب العلم، عظيمَ اللذة بالبحث في قواعدِه ومسائِلِه، وحينما أراد أن يفسِّر قوله تعالى عن أهل الجنة: (فأقبل بعضهم على بعضٍ يتساءلون) لم يملك أن يكتم ما يعتمل في صدره من لذَّات غامرة جرَّاء اشتغاله بطلب العلم في الدنيا، وإنما ساحَ قلمه في تفسير الآيةِ حتى ذكر معنى دقيقًا لا يفهمه أكثر الناس، وإن فهموه فهم لا يتصورون حقيقته، وهو أن (لذَّة أهل العلم بالتساؤل عن العلم والبحث عنه فوق اللذات الجارية في أحاديث الدنيا، فلهم من هذا النوع النصيب الوافر، ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما لا يمكن التعبير عنه).
وهذا الشغف المعرفي إذا اتصل بموهبةٍ حقيقية فإنَّ صاحبَه كلَّما أوغلَ في أوديةِ العلم ورياضِه تَرامتْ أمام عينيه زاويتان متقابلتان، تتوالد الأبعاد من أبعادِهما:
زاوية اتساع العلم وكونه بحرًا عميقًا لا يقع بخَلَدِ بَشَرٍ أن يلامِس قعره، وزاوية استفحال الجهل وغلبَتِه على أكثر الناس من حولِه، فسعة المعارف والقطع باستحالة بلوغ غايتها من هذه الناحية، يقابِلها من الناحية الأخرى سعة البشرية الذين يحتاجون أن ينهلوا من هذا البحر المتلاطم، ولا ريب أن طالبَ العلم المتبصِّر إذا صادفَ في أوائل طريقِه هاتينِ الإشكاليتين المتقابلتين فإنه سيظلُّ مهمومًا بسؤال النفع ومسكونًا بواجب البلاغ وملازِمًا للبحث عن الأجدى والأبقى مما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
وقد ذكر محمد كرد علي في كتابه (المعاصرون) حكاية تاريخية ذاتَ دلالة في هذا السياق، وهي أن أحد العلماء في القرن الماضي سأله شيخه: هل تعرف تعريف العلم؟ فقال التلميذ: نعم. ثم يقول التلميذ: وكنت إذْ ذاك أحفظ أكثر تعاريف العلم، فسردتُّ بعضها. فقال الشيخ: اسمع مني تعريفًا مفيدًا: العلم هو ما ينفعك وينفع الناس. ثم سأل: هل انتفع الناس بعلمِك؟ فقال: لا. فقال الشيخ: إذًا أنت لستَ بعالمٍ، فانفع الناس بعلمِكَ لتكون عالمًا.
وإذا تجوَّلنا في أروقةِ عقلِ الفقيه عبدالرحمن السعدي رحمه الله، فسنرى أن السؤال المضمَر الذي يهيمن على نشاطِه الذهني هو سؤال العلمِ النافِع، فأيُّ باحثٍ يجذِب الملاءة الرقيقة التي تكسو أطراف نتاجِه فإنه سيصادف سؤال النفع مركوزًا في أعماق الجذور، ويمكن معرفة ذلك والاستيقان منه بأدنى بحثٍ في بعضِ نتاجِه الذي سار مسيرَ الشمس.
غزارة الحضور:
تُسَرُّ نَفْسُ الشيخ وينشرح قلمه لكثرة الكلام عن العلم النافع، بل إن مصطلح “النفع” تسرَّب وتكرَّر في عناوين كتبه وخطبه ورسائله، وأما كلامه المتناثر عن العلم النافع فغزيرٌ كما سيأتي، مما يدلُّ على أن عقل الشيخ مُضاء من كل جانبٍ بهذا الهمّ المعرفي النبيل، فالشيخ يحبُّ أن يعرِّف الناس بهذا العلم النافع، وهو مولعٌ بأن ينصب له علامات ودلائل ترشدهم إليه، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحدّ، وإنما هو فوق ذلك يجتهد في إزالة ما يلتبس بهذا العلم من معارف مفضولة أو موهومة، فلو خيِّل إليك أن تستوقف قاطرة معارف السعدي فستجد أن الـمِقْوَد في قبضة العلم النافع.
يعرف الشيخ العلم النافع مرةً بآثارِه، فيذكر أنه (العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشدٌ وهداية لطرق الخير وتحذير عن طريق الشر أو وسيلة لذلك فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارًّا أو ليس فيه فائدة)، ومرةً يعرفه بذكر بعضِ مفرداتِه، ويذكر أنه (العلم المزكِّي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين، وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال)، ومرةً يذكر أنه من أكبر النعم فيقول: (من أكبر نعم الله على عبده أن يرزقه العلم النافع، ويعرف الحكم بين الناس في المقالات والمذاهب، وفي الخصومات والمشاحنات).
وكلام الشيخ عن العلم النافع في كتبه كثير جدا كمًّا ونوعًا، بل إني وقفت على عشرات المواضع في كتابٍ واحدٍ، فهذا المفهوم متغلغل في أعماق الشيخ، راسخ في وجدانه، غزير الحضور في تراثه.
ولا يقف استقرار مفهوم النفع في نفس الشيخ عند هذا الحد، وإنما جعله معيارًا للمفاضلة بين رجالات العلم، فلو قيل للشيخ: من أفضل أهل العلم؟ لقال على الفور: أنفعهم للناس. ولذلك فإنه أشار في كتابه (مجموع الفوائد) إشارة لافتةً إلى بعض العلماء في عصره، ثم ذكر هذه الأسطر عميقة الدلالة، فقال: (اعلم أن في هذا القُطر -يعني نجد- المسؤول عنه أربعة من أهل العلم الذين برزوا على غيرهم، وتميزوا بعلمهم وتعليمهم ونفعهم، وحصل بهم وعلى أيديهم خير كثير ونفع كبير؛ فميِّزهم يا أخي بمحبتك، واعرف قدرهم، وأكثر من الدعاء لهم والثناء عليهم ونشر محاسنهم، وتقرب إلى الله بذلك، وهؤلاء تعرفهم ويعرفهم غيرك، وذكر صفاتهم يغني عن ذكر أسمائهم، وضمَّ إليهم خامسًا قد جعل الله فيه بركةً، فهو وإن كان دونهم في العلم، فقد حصل على يديه من النفع التعليمي والديني ما لم يحصل على يد غيره، فالعلم إذا جعل الله فيه بركة ترتب عليه خير كثير)، والشيخ يشير ها هُنا إلى العلماء الأجلاء الذين شكلوا في زمانهم سلسلة ذهبية من المرتفعات البشرية: ابن إبراهيم، وابن باز، وابن حميد، ولم أعرف الرابع بيقين ولعله يقصد نفسه، والخامس القرعاوي. رحمهم الله جميعًا.
للحديث بقية…
مقالات سابقة للكاتب