وابي سابي!

في ظل عيْشنا في عصرٍ يُدار عبر أدوات وسائل التواصل الاجتماعي؛ نحن بحاجة إلى الرجوع إلى إنسانيتنا العميقة، وبراءة دهشة وجودنا الأولى.
ورغم قوة وفاعلية هذه الوسائل في جوانب حياتية كثيرة، إِلَّا أنها سلبت منا العفوية والبساطة التي خُلقنا عليها، وخلقتْ منا كائناتٍ تُدْمنُ المقارنة، وتعشق إقرار الآخرين بصدق ما نفعله،حتى غدونا نقاطع لحظاتنا الأثيّرة لالتقاط الصور ونشرها، ثم نقضي الساعات التالية في تقصي عدد المشاهدات، ومتابعة الإعجابات والتعليقات.
وهكذا كلما أتيحت لنا لحظة فراغ، أخرجنا هواتفنا، وثبَّتنا أعيننا على شاشاتها، وتابعنا نمط حياة مشهور تبدو مثالية؛ فتأكلنا الغيرة، ونفترض أنه يعيش بالفعل على هذا النحو من محتواه.
وبالتالي، وفي وسط هذا الرُّكام من المشهد اليومي؛ نحن بحاجة إلى طريقةٍ جديدة لرؤية العالم ومكاننا فيه.
هذا المشهد الذي يفتقر إلى كثيرٍ من الحكمة والوعي؛ يجعلنا في حاجةٍ ماسّة إلى أدواتٍ تُمكْنَّا من عيْش الحياة عن قصدٍ ووعي.
كما يجعلنا أيضاً بحاجة إلى إطارٍ يحدد لنا ما نهتم به؛ حتى نتجاوز رغبتنا المستمرة في المزيد والأفضل والأحسن والأكثر.
ونتيجةً لذلك، نحن بحاجة إلى دربٍ من البصيرة؛ لنتمهل،حتى لا تدفعنا الحياة في طريقها، وحتى نتمكن من البدء في ملاحظة المزيد من الجمال، والتخلّي عن ركْضنا لتحقيق الكمال، وترْك سعْينا الدؤوب نحو خلْق حياة مثالية.
ويمكن لحكمة “الوابي سابي” المتجذرة في الثقافة اليابانية أن تمنح نفوسنا بِضْعاً من هذا الاحتياج القائم لترميم ذواتنا.
“والوابي” كما ذكرته “بيث كيمبتون” في كتابها (وابي سابي) هو قبول للواقع، وما يصاحبه من رؤى، ويسمح لنا بإدراك أنه مهما كان وضعْنا؛ هناك جمالٌ مخفي في مكانٍ ما.
كما يمكن للوابي أن يصف الشعور الناتج عن إيجاد الجمال في البساطة الذي يتسم بالرضا بعيداً عن كل مظاهر العالم المادي.
في حين أن “سابي” تعني البساطة الأنيقة، وهي حالة يخلقها الزمن، وهي حالةٌ متعلّقةٌ بما يضيفه العمر من فخامةٍ راقيةٍ أنيقة.
ورغم أن “السابي” معنيٌّ بكيفية ظهور مرور الزمن بشكلٍ ملموس على الأشياء، فإن معناه الأعمق يلمح إلى ما هو مخفي تحت سطح الشيء الفعلي الذي نراه.
إن “سابي” تمثيل للطريقة التي تتطور بها الأشياء وتنمو، ثم بعد ذلك تفنى.
وهو بذلك يُثيّر فينا استجابةً عاطفية،غالباً ما تكون مشوُّبة بالحزن والوجّد، بينما نحن نتدبر انتهاء الحياة.
إن مكنون وسحر “الوابي سابي” لا يمكنك تعريفه، فهو عصيٌّ صعب المراس على كل من حاول تعريفه، ولكن يمكنك أن تخبر بتصوُّرك له وما تشعر به، في الوقت الذي لا يمكنك أن تعرفه بحقّ إِلّا عندما تختبره بنفسك.
إن فلسفة “الوابي سابي” لديها القدرة على ترتيب الفوضى التي تسود معظم يومنا، ليس لأنها تمنحنا الأدوات اللازمة لمعالجة المشكلات الظاهرة، ولكن لأنها قادرة على تغيير رؤيتنا للحياة نفسها،حيث يعلمنا الوابي سابي البساطة، والرضا بالقليل،مما يجعلنا نحظى بالمزيد.
إن “الوابي سابي” يمثل مخزوناً ثميناً من الحكمة يُقدِّر الهدوء،والانسجام، والجمال،وعدم الكمال.
ولا يعني عدم الكمال الحاجة إلى خفْض المعايير، أو الانسحاب من مسرح المشهد الاجتماعي، بل يعني ألَّا تحكم على نفسك لما أنت عليه؛ كونك غير مثالي على الوجه الأمثل.
وحتى تحظى نفوسنا بخير الوابي سابي، يمكننا استشعارها في لحظة تقدير حقيقي،لحظة مثالية في عالم غير مثالي.
وهذه الحالة من الممكن تعزيزها عندما نُبدي استعدادنا لملاحظة التفاصيل اللذيذة وتوليد البهجة، وتختبرها عندما نعيش حياتنا بأكبر قدر ممكن من المصداقية والإلهام.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *