شَلَلُ الأصداء

🖋️ سمعته في أحد المجالِس محدِّثا عن نفسه حديثًا عَرَضِيًّا لكنه يفسِّر قدرًا كبيرًا من التساؤل الذي ربما يخطر في الأذهان حول قِلَّة نِتاجه في مجال تخصُّصِه رغم وفرة علمه وقوة عارضته وروعة بيانِه، يقول في أثناء حديثه العَرَضِي: لستُ ممن يلقي كلمتَه ويمضي، وإنما إذا نشرت شيئًا أخذت زَمَنًا أتَتَبَّع جميعَ ما قيل حولَه من ردود واعتراضات وإضافات.

وهو لا يكتفي بذلك المسلك، بل ربما ردّ على بعض هؤلاء المعلِّقين المستطيلين عليه بلا حقّ، فهو يلقي صرخةً يتيمةٍ في وادٍ، ثم يتوقف برهةً من الزمن لينظر أين بلغت أصداءُ صرخته، ويحاول أن يقيس بالضبط مدى تأثيرها على من بلغتْهم، ويجتهد أن يدرك إدراكًا تامًّا وتفصيليًّا كيف تلقَّى المحبُّون والشانئون تلك الصرخة، ونحو ذلك مما يندرج تحت لافتةِ تتبع الأصداء ورصد الآثار واستجلاء النتائج.

وأما تلك الأصداء التي تبلغه دون تَتَبُّعٍ فإنه يتلقَّفُها بقلبه ويفرش لها فراشًا وثيرًا بين جوانحِه، فليس بمستغرَبٍ منه البتَّة أن تراه يحفظ جملةً عابرةً قيلت عنه في مجلس خاص، وبلغتْه عبر عِدَّة وسطاء، وجاءتْه مُسَلْسَلَةً بالرواة، ثم هو يرويها لمن لقيَه إذا وَجَدَ أدنى فرجةٍ في الحديث.

هذه حالٌ متكررة عند كثير من الناس في مجالات شتى، مع تفاوت نسبي في درجات الاهتمام؛ يبدِّدُ صفاء قلبَه في تتبع الأصداء المختلفة، ويذر هدوءه النفسي نهبًا للأمزجة المتفاوتة، بينما هو يكثر من ذمُّ عقولَ أكثر الناس إلا أنه بالمقابل يقف طويلا عند عباراتهم وآرائهم العابرة، لديه وبامتياز ما أسمِّيه: “قابلية المشاغَلة”، فكلُّ شيءٍ مهما صَغُر مؤهَّل لأن يكدِّر خاطره ويحرِفَ مساره ويبطِّئ حركته، وكلُّ أحدٍ يستطيع إخراجه عن احتشامِ لغته ووقارِ تصرفاته وانتظامِ أعمالِه، ولو كانت مجردَ تعليقاتٍ عابرةٍ من أسماءَ صريحة أو مستعارةٍ، لم يحسِن أن يتمثل في حياته قول الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: (وأعرض عن الجاهلين).

وهذه الأصداء تشلُّ حركةَ من يلقي لها بَالًا، ولذلك كلما رأيتَ أحدًا غزيرَ النتاج مباركَ الوقت فاعلمْ بالضرورة أنه مُعرِض عن فضول النزاعات وصادِفٌ عن أكثرِ الخلافات، وهو حتمًا قليل الاحتفالِ بالانتقامِ لنَفْسِه، فانتظام العطاء واستمراره يناقض إرخاء المسامِع لكل كلمةٍ عابِرة، ومن فتش في سير المكثرين من النتاج العلمي والعمليّ من سائر التوجهات وقف على شيءٍ مما ذكرتُه.

فمِن أغزر المعاصرين نتاجًا علميًّا على الإطلاق الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمه الله، وقبل أشهر نَشَرَ الدكتور محمد المشوّح ترجمةً حافلةً للشيخ بعنوان: (الشيخ محمد العبودي كما عرفته)، وَمِن أجلِّ ما لَفَت انتباهي الفصلُ الذي عَقَده المشوّح عن تعامل الشيخ مع الخلافات العلمية التي تنبعث أحيانًا لأسباب مختلفةٍ حول كتبه، وقد بَدَأَ المشوَّح ذلك الفصل بقوله: (ومن سموِّ أخلاقه إعراضه عن كثير من الخلافات والخصومات وعدم انشغاله بها)، ثم ضرب المشوّح أمثلةً مختلفةً لهذا الإعراض من حياةِ الشيخ، وليس الشيخ العبودي استثناءً من حياة الأفذاذ قبله، بل ستجد في ترجمة كلّ عالمٍ غزيرِ النتاج مثل هذه الفَصل، لأنه فصلٌ عظيمٌ في حياتهم.

وهذا في كافة التوجهات العلمية والفكرية، فحيثما وجدتَّ الغزارة والاستمرارية والتأثير ففتش عن الإعراض عن فضولِ النِّزاعات، ففي أثناء الترجمة التي كتبها الدكتور جلال أمين للروائي المصري المكثِر نجيب محفوظ تجد هذه العبارة التي جُعِلَتْ مفتاحًا لفَهم شخصية الأديب الـمُترْجَم: (إذا كانت الكتابة الجادة المنتظمة على النحو الذي يرجوه تتطلب مجاملة هذا الشخص أو ذاك فلا بأس فيها، ولا داعي لأي شجارٍ أو أية مواجهة أو أية معركة إذا كانت ستعطله عن عمله أو تحرفه عن مساره، وإذا كانت كلمةً طيبة توجه إلى رجلٍ سخيفٍ كفيلة بأن تخلصه من هذا الرجل وتصرفه إلى سبيله فما الضرر منها؟ المهم هو الأدب والنتاج، وكل ما عدا هذا بسيط وغير مهم ولا بدّ أن يُنسى).

ومما يُنسب في هذا الصدد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولُه: (إذا سمعت كلمةً تؤذيك فطأطئ لها حتى تتخطَّاك)، ومَن شغل نفسه بالمتابعة الدقيقة لكلّ الأصداء، ثم هو يفتح على نفسه بابًا للانتصار والانتصاف ممن ندَّت منهم كلمة أو عبارة، فهذا خَلَعَ عن رأسه عِمامة الراحة ونَفَشَ شعر الأكدار!

وأكثرَ ما يضيع على أمثال هذا الإنسان هو زمانُه، وهو أجلُّ وأعظم ما يملكه المرء في حياتِه، ولذا حين ذكر ابن تيمية عشرين فائدة للصبر والإعراض عن الجاهلين أشار إلى مصلحة الحفاظ على الوقت، وذلك لأن الزمان ظرف الأعمال العظيمة، فقال: (أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام).

وليس بالضرورة أن يكون وراء الاهتمام بتتبع الأصداء ضعفٌ في جانبِ الإخلاص، فربما وُجِدَ الإعراض ولم يوجد الإخلاص، فهو أقرب ما يكون إلى قوَّةٍ نفسية وعادةٍ قلبيَّة تُكتَسب بطول الـمِران وكثرة الـمِراس، فإذا أردت أن تنتظم في أعمالك فأغلق ما استطعتَ من نافِذَة الأصداء!

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *