المدينة الفاضلة .. نموذج للفلسفة التربوية المثالية دعت فيه الفلسفات القديمة إلى تحقيق مثل عليا من الفضائل والأخلاق، وترى أن الالتزام بالدين وتطبيق تعاليمه واحترام تشريعاته يحقق جانب روحي ومستوى أخلاقي فاضل.
وقد طرح أفلاطون في عمله الشهير “الجمهورية” رؤيته لمجتمع مثالي يتأسس على العدالة والفضيلة. في هذا النموذج يُعد التهرب من العبادات أو إنكارها نوعا من الابتعاد عن الحقيقة العليا والفضائل الروحية. وإذا حضرت المخالفة وجبت العقوبة، ولكنها يجب أن تكون إصلاحية وتهدف إلى مساعدة الفرد على تقويم النفس والعودة إلى الطريق الصحيح نحو المثل العليا.
على خلاف ما ذكر حول فلسفة السياسة للإمبراطورية الرومانية بعد تحولها للمسيحية واعتمادها كدين رسمي. حيث كانت هناك عقوبات للمنحرفين عن المسيحية بصورة اضطهاد للديانات الوثنية وعقد مجالس للكنيسة تصدر من خلالها إجراءات قضائية بالنفي أو الإعدام، وتهميش اجتماعي وقانوني طال حتى الأقليات من المسلمين واليهود، ويتم التعامل مع أي انحراف ديني كتهديد للأمن والاستقرار السياسي، وأن الحفاظ على نقاء الإيمان مرتبط ببقاء الإمبراطورية وقوتها.
وفي هذا السياق جاء الدين الإسلامي القويم وماورد فيه من تشريعات ونظم نموذج راقي بصورة تكاملية عجيبة تربط الإنسان روحياً بالتعلق بالله – عز وجل وأهمية الإخلاص في التوحيد الذي أساسه : لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيه إشباع روحي وتوكل على الخالق الحقيقي – سبحانه وتعالى واستسلام عبودية لعظيم قادر مدبر بيده ملكوت السماوات والأرض فالإنسان بطبيعته يحتاج لقدر كبير من التوازن الروحي، وإشباع هذا الاحتياج يقود لاستعدادٍ يُظهر فضائل الأخلاق على الأفراد والمجتمعات في ظل الالتزام بالعبادات والفرائض.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد (273) ، فبعثته – صلى الله عليه وسلم – كانت منبعاً للفضائل والنور الذي يبدد ظلمات الجهل ونجاة من التيه والفوضوية.
ونزول هذه الشريعة جاء بشكل يتوافق مع الطبيعة البشرية بطابع رحمة وعناية فائقة، وتقويماً للسلوك بالإقناع والحكمة والموعظة الحسنة، وفي تعديل السلوك الخاطئ بالتدرج نحو الطهر والنقاء والفضائل الأخلاقية. فالخمر مثلاً وتدرج الشريعة في فرض منعه وتحريمه شاهد على ذلك.
إن تربية النشء في ظل مبادئ وتعاليم الشريعة الإسلامية والحرص على المحافظة على العقيدة السليمة وأداء العبادات يوفر قدر كبيراً من الفضائل السامية والأخلاق الحميدة.
وبالطبع فالخصائص البشرية والغرائز الإنسانية لها دور أساسي في تقصير الأفراد في عباداتهم ومخالفتهم لتعاليم دينهم الإسلامي القويم فجاء الحث على مناصحة المخالف والأمر بالصبر عليه وإتاحة فرص للتوبة والرجوع الى الطريق المستقيم بل التشجيع عليها ومكافئة التائبين وتقبلهم. والأعجب هو الأمر بالستر على المخالف حفاظاً على حقه في التوبة والرجوع.
وقد تبنت المملكة العربية السعودية هذه العقيدة الإسلامية وجعلتها أساساً بنت عليه قوانينها وتشريعاتها وأنظمتها وكانت مناراً للأمة في هذا العصر، وعنيت بشكل واضح بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية مع الحرص على تأدية العبادات وإيجاد الحلول والتسهيلات لجميع العقبات في هذا الطريق، وأصدرت أحكاماً وأنظمة قائمة على المنهج الإسلامي الصحيح تنص على معاقبة المخالفين للإسلام وتعاليمه أو المقصرين وحتى المنكرين البعض العبادات والتعامل معهم بطريقة تتوافق مع الشريعة الإسلامية التي تعنى بالجانب الروحي الذي هو أساس الصلاح والإصلاح للفرد والمجتمع.
ففي إطار التربية والتعليم ينص النظام الأساسي للحكم على أن يهدف التعليم إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء، وإكسابهم المعارف والمهارات، وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم، محبين لوطنهم، معتزين بتاريخه”.. النظام الأساسي للحكم المادة (۱۳)، وقد تم إعداد لوائح للسلوك والمواظبة في المدارس الضمان الالتزام بالقيم الإسلامية، إذ يُعاقب المتهاون في أداء العبادات بخصم درجات من السلوك، لكن هذه العقوبات تحمل طابعًا إصلاحيًا، حيث يتم منح فرص لتعويض النقص من خلال السلوكيات الإيجابية، ولها دورها المهم في المساهمة على تنشئة جيل سوي صالح يخدم مجتمعه ووطنه، وقد هدفت إلى ضبط السلوك والمواظبة لدى طلاب التعليم العام بما يتوافق مع المبادئ الإسلامية والقيم وثقافة المجتمع.
ومن الواضح في هذا العصر أن الأنظمة التعليمية للدول الإسلامية هي التي تهتم بالجانب الديني كأساس أخلاقي تسعى به نحو الفضيلة مثل الأنظمة التعليمة القائمة في دول الخليج ومصر وتركيا وغيرها رغم سيطرة الأنظمة المدنية الوضعية على كثير منها.
بينما تعتمد أغلبية الدول في جانب القوانين والأنظمة التعليمة النظام المدني العلماني، مع حفظ الحرية الدينية للأفراد وتقنين عدم الاستهزاء أو النيل من هذه الحرية بقوانين تعاقب المخالف، وبقي الاهتمام بالدين فعلياً والحرص على تأدية شعائره من جانب المؤسسات الدينية إما كنيسة أو معبد وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال دولة الهند في المدارس الدينية الهندوسية الخاصة، قد يُطلب من الطلاب أداء الشعائر الدينية مثل الصلاة أو الاحتفالات الخاصة بالمناسبات الدينية الهندوسية، والطلاب الذين يرفضون قد يواجهون إجراءات تأديبية داخل المدرسة، مثل الحرمان من بعض الامتيازات، لكن العقوبات لا تكون صارمة أو قانونية. حيث أن النظام التعليمي الرسمي في الهند علماني ولا يفرض المشاركة في أي ممارسات دينية.
ومن فضل الله ومنته على المملكة العربية السعودية التمسك بهذا الدين القويم واكتساب ما فيه من تعاليم وتشريعات ورحمة وأن يكون لها منهجاً تحقق به مجتمعاً صالحاً يسعى ويدعو للفضيلة، فتمسكها بالشريعة الإسلامية وتطبيقها لشرائعها وأنظمتها القائمة على الإصلاح والرحمة، تمثل نموذجًا معاصرا لهذه الفلسفة.
نموذج يعزز القيم الروحية والأخلاقية الفاضلة، ويؤكد على أن الإسلام قادر على تقديم حلول متكاملة تعالج سلوك الفرد ويُحقق الفضيلة في المجتمع بالتكامل مع العادات والتقاليد الأصيلة التي شرفت قبائل هذه البلاد، حيث كانوا بيئة خصبة لاكتساب المزيد من الفضائل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع:
1 – موقع التعليم والتدريب في المملكة العربية السعودية
https://www.my.gov.sa/wps/portal/snp/aboutksa/EducationInKSA
https://dorar.net/hadith/sharh/113995 موقع الدرر السنية
مقالات سابقة للكاتب