كنت في الصالة الداخلية لمطار الطائف مساء يوم الخميس الماضي منتظراً موعد إقلاع رحلتي إلى الرياض ؛ كانت هذه الرحلة بعد أن قضيت إجازة الخريف التي كانت مدتها أسبوعين تقريباً.
إجازة قصيرة ولكنها كانت جميلة قضيتها مع الأهل والأحبة في ليالي الخريف ذات النسمات الباردة اللطيفة.
في اليوم الذي يعقب سفري ودعت والدي ووالدتي وأهلي وأقاربي في مدينة الباحة ، واتجهت للطائف في مساء الثلاثاء.
الوداع لم يكن سهلاً أو عادياً حيث كان صعباً على روحي ذرفت بعض الدموع بعد أن ودعت والدتي وقبلت يديها الحانية.
ليلة الأربعاء عندما وصلت الطائف كانت همومي وأحزاني تحاصرني كنت أفكر كثيراً ويبدو أني استسلمت لأوجاعي وآلامي وأفكاري وعدت وذرفت الكثير من الدموع ولكن هذه المرة لم يرني فيها أحداً سوى الله.
كنت في صالة المطار ومازال هناك ساعتان على موعد إقلاع رحلتي.
كنت جالساً احتسي القهوة وأتناول وجبة خفيفة ، وبعدها أخرجت مصحفي من شنطتي وبدأت أقرأ وردي اليومي.
روحي بدأت شيئاً فشيئاً تهدأ وتطمئن مع آيات القرآن العظيمة.
كنت منغمساً في التلاوة وفجأة وبدون مقدمات التفت عن يساري ورأيت رجلاً على كرسي مقعد.
من هذا ؟ يا إلهي أنه صديقي الغالي أبو نواف !! ماهذه الصدفة الجميلة وماهذا القدر السعيد ، واندفعت إليه قائلاً بصوت عالٍ أبا نواف ، أبا نواف ثم عانقته وقبلته وكانت أشواقي نحوه عظيمة جدا ؛ لأن له مكانة كبيرة في قلبي لا يعلمها إلا الله وحده.
وقابلت ابنه نوافا أيضاً ؛ بدا فتى يافعا يعتمد عليه.
أبو نواف عزيزي القارئ ليس شخصاً عادياً يمر أمام من يعرفه مرور الكرام ، إنه شخص استثنائي وقصته وتجربته في الحياة قصة وتجربة عظيمة المعاني.
عرفت أبا نواف عندما قدم إلينا في قريتي الصغيرة ليدرس المرحلة الثانوية حيث لم يكن في قريتهم القريبة من قريتنا مدرسة ثانوية.
عرفته في تلك الأيام التي مضى عليها الآن مايقارب الثلاثون عاماً، حيث كان فتىً ألمعياً ذو بنية قوية وكان مرحاً جداً والابتسامة لا تفارق محياه أبداً.
وأثناء مرحلة الثانوية تعرض لحادث مروري قوي أدى لتعرضه لشلل نصفي.
كانت تلك الحادثة صدمة كبيرة له ولأقاربه وأحباؤه.
في البداية كانت الصدمة النفسية لأبي نواف كبيرة حيث تحولت حياته فجأة من فتوة وحيوية ونشاط وحركة إلى شخص مقعد لا يحرك إلا بعض أجزاء جسده.
الرائع في شخصية أبي نواف أنه لم ينهزم أو يستسلم بل كان مثالاً للتحدي والصبر ؛ حيث أكمل دراسته الثانوية والتحق معنا في جامعة الملك سعود في تخصص اللغة الإنجليزية وكان يذهب على مقعده المتحرك من سكن الطلاب إلى قاعات الدراسة في كلية الآداب والتي تبعد عن سكنه ما يقارب 500 متر ، كان يدفع مقعده بيديه في أجواء الرياض الحارة الصعبة ، ولم نفقد روحه الفتيه المرحه كان يضحك ملء فيه وكان يمازحنا دائماً.
ومن الشيء العجيب والملفت للنظر أننا لما كنا نأتيه في السكن الجامعي لنسليه كان ما يلبث أن يطردنا بأسلوب طريف لأنه يريد أن يركز على دراسته ويريد التميز فيها.
مرت الأيام وتخرج أبو نواف من الجامعة وتعين في شركة الاتصالات السعودية ، وأقبل على الحياة وتزوج ورزقه الله بولدين يقومان على العناية به الآن.
أبو نواف لم يسلم من القدر فقد تعرض لأكثر من جلطة ، وفقد على أثرها القدرة على النطق بشكل كبير ومع كل تلك الإبتلاءات الذي تعرض لها أبا نواف إلا أنه مازال صامداً قوياً ، قَبِل ما حدث له بكل رضى ولم يسخط ، فأقبل على الحياة ولم يهرب منها.
أبو نواف قد خاض تحديات عظيمة وخط بمداد من ذهب أجمل معاني الصبر على جبين القدر ، وعندما رأيته في المطار صامداً شامخاً قوياً رغم كل الصعوبات والتحديات التي مرّ بها وعدم قدرته على الكلام خجلت من نفسي أشد الخجل وأدركت كل النعيم الذي أرفل فيه ولم استشعره ، خجلت من نفسي لأن كل الهموم والأحزان والآم التي أدعيها لا شيء يذكر أمام هذا الجبل الشامخ القوي الصابر رغم كل تلك الابتلاءات العظيمة التي تعرض لها في حياته.
أبو نواف الغالي اعلم أني أحبك ولم أنسى ذكريات الصبا وأيامنا الجميلة في الجامعة.
أسأل الله أن يمدك دائماً بالقوة والصبر وأسأل الله أن يعوضك على كل تلك الابتلاءات التي تعرضت لها بجنة عرضها كعرض السموات والأرض.
شكراً لك لأنك علمتني درساً أتمنى ألا أنساه أثناء انهماكي في دوامة الحياة بأن أبقى صابراً قوياً مهما تكون التحديات والصعوبات التي تعترضني.
دمت لي أخاً وصديقاً غالياً محباً.
محبك على الدوام ( نوار بن دهري).
نوار بن دهري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب