🖋️ يبدو أنَّني سأظل أتحدَّث عن أُستاذي الشيخ عبدالله الهدلق، حتى الحشرجَة. هذا الفَحل مِن بلدَة شقراء مسقَط رأس ذُرّية زيد القُضاعي، أثَّر بي إلى العَظم دون النظَر إلى أنواع التلقّي عن الأشياخ في مصطلح الحديث. كان يُملي، وأكتب. ماذا أدوّن؟ لا أدري! لكن ما أعرفه في قرارة وعيي، المراهق أبدًا، أنَّ لهذه المُقطَّعات، قيمة في زمن ما، قريب، وقَد كان.
لم ألتقيه إلا مصادفة. دون موعد سابق، التَحَمَت يدي بيده. أين؟ في معارض الكتب. في المكتبات. في مراسي ثقافات العالم، ومحط الكلمة اللانهائي.
كنّا نضخ الدماء في السواعد عبر أصابعنا المتعانقة. كان بيننا جين مُشتَرك. فحولَة رجل قضى نحبه في عالية نَجد، وكلمات باقية في دفاتر الفِكر والأدب، بل إلى آخر فسيلة تُغرَس في باطن الأرض بتحريض نبويّ شريف.
ساقَني إليه سوقاً، صديق،لقَّب نفسه المكتبة والليل، لولَعه بكل ما هو ثقافة في الحياة، لكم أحبَبت هذا الإنسان.
قال لي:سلّم على الشيخ.
كان لقائي بالشيخ وهو يسير تجاهي عبر السجادة الحمراء -الرد كاربت- مثل مشهَد لروبيرتو دينيرو، وهو يعبر إلى منصة الحفل، كأنما أُصيب بالبَرَص بفعل فلاش كاميرا الصحافة والبابا راتزي.
قال لي:مرحباً بابن أخي!
إنَّ أخي هذه، أشعرتني بشيء له رائحة منيّ دافق في أرحام مئات الأُمّهات عبر الأعوام. أطفال. أطفال. أطفال. لهذه الكلمة، رائحة غير مستهلكة، طاهرة، عذبة، لها قاع، وقلب، ونهايات مسائية، بطيف سحري أخّاذ، لا أنوف تستوعِب خصائصها العطرية.
أثناء مشاغباتي في تسلّق أسوار الكتابة، كنت أبعث له مقالات تلو مقالات، للحكم عليها، أو لأخذ البركة. كنت مصاباً بإسهال مروّع في قلمي، لتلاحق الأحداث في الوطن العربي.
كان يقول لي:”لم أنظر إليك في يوم ما بعين النقد”. تاريخ الرد: ٢٠١١م.
كانت كتاباتي آنذاك (هراء) لكن، لعلَّه تلمَّس بذكاء مواطن الشجاعة في قلمي. بالنسبة لي، لازلت أعتقد أن قوة قلمي في شجاعته. في صدقه. ليست في مفرداته، أو في تقمّصه أساليب المراهقين في التزويق، حين يناجون النجوم أثناء تعفّن الأرض أسفل أقدامهم، أو لجمهور لا يدري ماذا يقرأ، لكنه يضع أُصبعين في فمه ويُصفّر بأهازيج حماسية.
لالا، كان مذهَبي يقارب مذهب الفن للفن في الظاهر، لكنَّ في باطنه رسائل لم يفهمها غير عدد قليل، يحسبون أنفسهم الآن، مِن تلاميذي!
ما الذي يميز هذا الرجل، عبدالله الهدلق؟
كان يحب البشرية جمعاء، ويكرَه جاره. صادق. لا يتملَّق. لا يُقاسي الشعور النفاقي، بالبحث عن زهد الأولين، ونفاق المتأخرين وتعطشهم إلى الشهرة أو المال، في صورة أقبح من مواقعة بغي.
آسفٌ أبداً. متقزز من الواقع. لديه شعور داخلي بالنقص-لمقارنته نفسه بعظماء الكون، غوته، التوحيدي، بلزاك- هؤلاء الرجال الذين في عهود تسمح لهم بالكلام، ولَم يكن أقل منهم بحال، لو كان في عصرهم. تعرّي الواقع له، سدّ نفسه. حاول أن يرسم صورة أخيرة في نفوس من أحبوه بالابتعاد الجبري. راضٍ عن مسيرته. الاستعداد للدار الآخرة بحذَر، سلواه الآن. كان مثل فراشة متمزّقة بين الشعاع، والظُلمَة، واحتياجات الذات، واتقاء العاصفة.
من عجائب الدَهر، أن النَكِرة الذي وضَّح حقارة الدنيا في عين الهدلَق، هو النكِرة نفسه الذي عرّفني على ضرورة الابتعاد عن الناس والزهد بهم إلى حد البصاق قبالتهم. لقد اطَّلعنا على شيء فظيع، مخيف، جعلنا نحفر عشرات الخنادق بيننا والناس، لأجل ألّا يصل إلينا إلا فدائي عبر تجربة شاقة. خلال مشاعر عفوية. عبر أعوام يقضيها في ملاحقة أطيافنا. كلماتنا. النقاء الظاهر عبر حدقة أعيُننا. عبر سلوكنا الإنساني المُكتَفي بذاته، الممتلئ بما في داخله من طزاجة ولذاذة.
أرسلَ إلي مرة قبل عامين رسالة انتَشَلتني من موقف مؤلم. من قاع بلا نهاية. كان نهارا طويلا، مؤلما بالنسبة لي. إصابة خطرة تعرض لها أحد أولادي في ركبته، وأمور أُخرى كفيلة بصناعة جلطَة في قلبي المُتعَب.
قال لي:يا ابنآخي-بالنجدية-لعظيم محبتكم في نفسي، آثرت أن أشكركم في مقدمة كتابي المُعَاد طِباعته.
الغريب في الأمر، أنني حينها، أي:ساعة ما كان الأُستاذ الهدلق يفكر باسمي في المقدمة، كنت قد صدَّرت كتابي عن دوستويفسكي-أعمل عليه منذ مدة حتى كرهته- باسمه، ما هذا التوافق؟
حينما أتمعّن في علاقتي به، أشعر أنني أمام قسيس في غرفة اعتراف، لا يفصل بيننا إلا الشبك المخرّق، المانع رؤية معالم الندم في الوجوه الآثمة. وبالقَدر الذي أحببته فيه، كنت أخَافه.
ليس لأحد بعد الله أن يكشِف طبيعتي عارية غير الهدلق، وأضرابه، الذين لم أعد أريد التعرَف إليهم، عن قُرب. لكنهم قلائل في هذه الحياة. مثل سمكة الشصّية في نهر ديروينت.
إن لقاء أُناس أمثال الشيخ الهدلق، وحسن مفتي، مدعاة لمحبة العيش بحذافيره .
بسام الهويمل
مقالات سابقة للكاتب