في حديث عابر بيني وبين صديق عمري الدكتور حسني عاشور قال لي فجأة في خضم حديث عابر عبارة أستوقفتني وأسرتني جداً ودعتني لكتابة هذه المقالة، قال لي بكل عفوية وصدق: الناس في أمس الحاجة إلى قدوات أكثر من الوعظ يا نوار ، وعقّب على كلامه قائلاً المواعظ كثيرة وفي كل وقت وحين ولكن الغائب المفقود هم القدوات الحية الجيدة.
القدوات الصالحة في هذا الزمن قلة ويعدون عملة نادرة الوجود يجب أن نبحث عنها أو نعمل على صنعها وإيجادها.
الأبناء يحتاجون إلى والدين يمثلون لهم القدوة الحسنة يوجهونهم تلقائياً وبطريقة غير مباشرة من خلال محاكات سلوك الوالدين الإيجابي، والتلاميذ يحتاجون إلى معلمين مخلصين إكفّاء يقودونهم نحو المعالي ويزرعون فيهم حب العلم والعمل ويدفعونهم نحو القمة والمجد فينهض بهم الوطن في نهاية المطاف.
فالقدوة هي اللبنة الأساسية التي نحتاجها لبناء مجتمعاتنا بناء صحيحاً يثمر لنا النجاح ويختصر علينا الطريق وييسر لنا السبيل؛ ولذا فقد جعل الله لنا في رسول الله أعظم قدوة فقد قال سبحانه وتعالى :( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
هذه المقدمة عزيزي القارئ جعلتني أفكر ملياً وأنظر في دائرتي المحيطة من يا ترى يمثل لي قدوة حية أحاول أن أتبع خطاها في طريقي في الحياة ، فوجدت وبدون أدنى شك أنه الدكتور حسني.
تربطني بالدكتور حسني علاقة وطيدة تقوم على الحب والإحترام المتبادل علاقة تمتد لما يزيد عن عشرون عاماً.
عندما كنت غضّاً طرياً في بداية إلتحاقي بكلية التربية البدنية والرياضة سابقاً كمعيد ، كنت حائراً أفتقد التوجيه والإرشاد بلا خبرات كافية وإدراكي لكيفية التعامل مع التلاميذ والحياة كان ضئيل جداً.
كان من حسن الحظ أن مكتبي في الكلية كان بجوار مكتب الدكتور حسني فكنت أستأنس بالحديث معه في أوقات الفراغ وجذب حديثه وشخصيته إنتباهي بقوة.
كلام الدكتور حسني وخبرته في التعامل مع التلاميذ وخبرته في الحياة عميقة جداً.
الدكتور حسني لاعب خماسي حديث والتي تتكون من عدة رياضات وهي السباحة والرماية والجري والمبارزة والفروسية.

مرت السنون ونحن سوياً في الكلية وكل تلك الفترة الطويلة كنت أتأمل وأحلل وأفكر في شخصية الدكتور حسني.
كان ومازال جسم الدكتور حسني رياضياً لأنه لم ينقطع عن ممارسة تلك الألعاب مع أنه شارف على عمر الستين عاماً.
الدكتور حسني فارس أصيل بأخلاقه وقيمه وعاداته ولديه نظره ثاقبة عن الحياة.
كان موجهاً لي على الدوام وكنت ومازلت استشيره في كثير من الأمور وأجد لديه الحلول العميقة الناجعة.
في أحد المرات التي كنت أواجه فيها مشكلة عويصة وتواصلت معه هاتفيًا وطلبت من أن يأتيني لشقتي قال لي عبارة لن أنساها أبداً قال لي ( لن أخذلك أبداً) وبالفعل وفّى بوعده ولم يخذلني كعادته منذ عرفته.
من الأشياء التي لا أنساها عن شخصية الدكتور حسني هي مدى عمق حب الطلاب له كان حباً لا يمكن تجاهله وكان واضحاً جلياً، هنا عرفت أن الحب لايباع ولايشترى ولكن شخصيته الفذة وإخلاصه وتفانيه في العمل وعدله في تقييم الطلاب وحبه لهم وتوجيهه الأبوي واحتوائهم الدائم لهم كانت نتيجته ومحصلته أن أثمر بالحب الصادق المتبادل بين المعلم والتلميذ.
من الأشياء التي لا أنساها للدكتور حسني أنه أتى في أحد الإجازات من المطار مباشرة ليؤدي المحاضرة العملية في شدة الحر ، وعندما سألته عن ذلك قال لي هذه أمانه وهذا عملي الذي أتقاضى عليه الأجر ويجب أن ألتزم به.
وفي أحد المرات وجدته يصلح السياج المعدني للملعب بيديه في شدة الحر وعندما قلت له لماذا تجهد نفسك لو طلبت من فريق الصيانة أن يصلح السياج وأرحت نفسك؟! ، فأجابني إجابة مذهلة قائلاً ربما حدث مني تقصير في عملي فأحاول أن أبذل جهداً إضافياً للتعويض حتى يتجاوز الله عني.
وأما علاقته القوية بالصلاة فحدث ولاحرج كان يؤقت جواله قبل أذان الرياض بربع ساعة وعندما سألته عن ذلك قال لي : حتى ينبهني لأستعد مبكراً وإذا لم أكن متوضأً أعمد للوضوء ولا أتأخر عن الصلاة.
وكان لا يفوت صلاة الضحى حتى وهو في صالة السباحة ولا تفوته صلاة الفجر أبداً ، حتى أنه زارني في أحد الليالي وتأخر عندي فقلت له نم عندي ونذهب للعمل سوياً ، فرفض رفضاً قاطعاً وحجته أن أهل الحي معتمدين عليه فهو من يؤذن لصلاة الفجر في مسجد الحي بشكل دوري.
وكان يقول لي أنه عندما يتنقل بين أحياء الرياض أكثر ما ينصب تركيزه على مواقع المساجد في الطرقات حتى إذا قرب موعد الصلاة لأي فرض يعرف أي مسجد هو أقرب إليه فيتجه مباشرة نحوه.
كان يحب أن يلبس الثوب السعودي للصلاة وقبل كل صلاة كان يحب أن يرش شيئاً من العطر على ثيابه لأنه على موعد مع الله.
ومن الطريف أنه قال لي في أحد المرات :لو طُلب مني أن أدفع فلوس لأدخل المساجد في الرياض لدفعت بكل حب ، وعندما سألته عن السبب عبّر لي أن ذلك بسبب جمال تصميم المساجد ونظافتها وحسن فرشها والأجواء الإيمانية الروحانية التي أسرت لب قلبه.
كان لايجد لنفسه أي عذر لترك الصلاة في المسجد تحت أي ظرف.
ومن المواقف الفارقة الخالدة في ذهني عندما زرته في القاهرة وذهبنا سوياً لأحد المطاعم المجاورة لنهر النيل فما كان منه إلا أن سأل النادل هل تبيعون الخمرة؟! قال النادل نعم يا سيدي فما كان من الدكتور حسني إلا أن قال لي هيا لنذهب لنبحث عن مطعم آخر لا يبيع الخمرة فعندما سألته عن السبب فقال لأنهم سيستخدمون الكاسات التي نشرب بها الماء أو العصير في بيع الخمرة فكانت لفتة من الورع والحرص لا أنساها أبداً في حياتي.
الدكتور حسني شخص منضبط جداً، عملي جداً ومع ذلك فهو شخص مرح يحب أن يسعد الآخرين ويمازحهم ويدخل السرور على من يعرف ومن لا يعرف.
أعترف تماماً وأجزم أن الدكتور حسني مثّل لي قدوة حية وقصة عظيمة من الإنضباط الشخصي والأخلاق الرفيعة عايشت أحداثها ولامست روحها الصادقة شغاف قلبي على مر السنين.
أعترف أني لم أنهل واستفيد من هذه القدوة العظيمة الحية بشكل كبير ولكنه بشكل أو بآخر أثّر بي وكان ومازال علامة فارقة في حياتي.
دكتور حسني مازال يركض في الحياة بكل قوة وبشموخ وعزة ومازال يمثلّ لي الفارس القدوة البطل الشجاع الذي تعلمت منه الكثير والكثير وأخفقت أن أحاكيه في الكثير من مواقفه وسلوكياته وسماته الشخصية العظيمة النادرة.
دمت بكل خير وحب أيها الفارس القدوة.
محبك المخلص : نوار
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
يوم الجمعة الموافق 12-6-1446
الرياض-الدرعية
مقالات سابقة للكاتب