الكرامة وأصحاب الهمم: دروس في قوة الروح والإرادة

الكرامة لا تُقاس بكمال الجسد، بل بكمال الروح. ليست الكرامة فيما تراه الأعين من وفرة النعم، ولا في اكتمال الجسد أو اتساع الرزق، بل هي في ذلك النور الذي يسكن القلب ، وفي تلك النفس التي تشعر بما آتاها الله من خير ونعم فتشكرها ، ولا تنظر فيما ابتلاها الله به من نقص من الأموال والأنفس والثمرات على أنه نقم فتكفرها ، وفي تلك العزيمة التي تنهض من تحت الركام، وفي ذلك الإصرار الذي لا تذروه رياح العجز ولا تُطفئه ليالي الألم ، فتجد من كان هذا حالهم هم أرضى الناس بتقدير الله ، وأكثر الناس شكراً وحمدا لله ، وأنجح الناس في دينهم ودنياهم بالله ، فهم يعيشون لله ، ويستعينون بالله ، ويعملون لله ، ويتوكلون على الله ، ويستمدون القوة من الله ، فحياتهم كلها لله وبالله ومع الله.

الكرامة الحقيقية تكمن في رضى الإنسان بأقدار الله ، وقدرة الإنسان على النهوض من تحت أي تحدٍّ مهما كان قاسيًا ، الكرامة لا تُقاس بالمظاهر ، بل تقاس بنبل الروح ، وبالقدرة على التغلب على الصعاب. وكم من رجلٍ سلبه الله نعمة البصر ، فصار أعمق الناس بصيرة! وكم من امرأة قُطعت بها سُبُل الحواس ، لكنها فتحت للعالم أبوابًا من الأمل لم تُفتح من قبل ، وكما قال تعالى :(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

إن المكرم بحقٍّ هو ذاك الذي عرف أن الامتحان ليس نقصًا ، بل رسالة ، وأن كل حرمانٍ ظاهر يخفي عطاءً باطنًا لا يعرفه إلا المؤمنون الصابرون ، الذين يعملون للدنيا والآخرة معا ، وجنة الله نصب أعينهم كما جاء على لسان الرجل المؤمن في سورة يس عندما قال الله تعالى : ( قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).
وهذا ما نراه بوضوح في حياة العديد من الأشخاص الذين واجهوا تحديات جسيمة وأصروا على تخطيها.

دروس من حياة أصحاب الهمم:

لنأخذ بعض الأمثلة على أصحاب الهمم الذين أثبتوا أن الإعاقة ليست عائقًا أمام الإنجاز ، وفي طه حسين، الذي أطفأ الله نوره الظاهري، لكنه أضاء لأمة كاملة دروب الأدب والعقل. لم يكن يرى، لكنه أبصر ما عجز المبصرون عن رؤيته. لم تكن الحياة له سهلة، لكنه جعل منها ملحمة تروى، وسيرته تُدرّس في المدارس والجامعات.

وهيلين كيلر، التي اجتمعت فيها محن ثلاث: لا تبصر، ولا تسمع، ولا تتكلم. ومع ذلك، علّمت العالم أن الإعاقة الحقيقية ليست في الحواس، بل في غياب الإرادة. كتبت، وخطبت، وألهمت، وفتحت نوافذ النور لمن ظن أن الليل لا ينجلي. هؤلاء الأشخاص وغيرهم يظهرون لنا أن الإرادة هي الحافز الذي يمكن أن يتغلب على أي ضعف ظاهري.

ففي المقابل، نجد أن العديد من الأصحاء لا يحققون تأثيرًا في حياتهم، لسبب بسيط: عدم وجود الإرادة والتصميم. لا يقدرون على تحدي الحياة، ويعيشون في ظلال الراحة والكسل، رغم أنهم يمتلكون كل مقومات النجاح.

من لم يحرّك قدميه نحو الخير، فستقوده قدماه إلى التيه. ومن لم يُبصر بعينيه جمال الحياة ورسالتها، عاش في عتمة مهما أشرقت الشمس.

فالنعمة إذا لم تُستثمر، تحولت إلى غفلة ونقمة ، وإن الغفلة أخطر من الفقد. وقد قال أحد الحكماء: “إن الله لا يسأل العبد يوم القيامة: لماذا لم تكن مبصرًا؟ ولكن يسأله: لماذا لم تكن مؤثرًا؟”

إن الذي فقد نعمة من نعم الجسد، لكنه قام يخترق الصعاب، ويواجه الحياة بإيمان ويقين، هو مكرَّم عند الله وعند العقلاء، بل هو في كثير من الأحيان أفضل ممن خُصّ بالنعم، لكنه ركن إلى الراحة، وخدرته العادة، فلم يُحسن شكرًا، ولا عملاً.

الخلاصة:

الكرامة ليست في اكتمال الجوارح، بل في حسن توجيه ما بقي منها. البطولة ليست أن تملك كل الأدوات، بل أن تصنع المستحيل بما في يدك. المعيار الحقيقي للنجاح لا يُقاس بعدد النعم، بل بقدر البصيرة، وحجم التأثير، وصدق النية، وإرادة النهوض مهما كانت العوائق.

✍️نوار بن دهري
‏NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “الكرامة وأصحاب الهمم: دروس في قوة الروح والإرادة

د. ايمن عبد العزيز

نصّ نادر في سموّه، يفيض حكمة وعمقًا، ويرتقي بالقارئ من ظاهر الحياة إلى جوهرها. فيه يُعاد تعريف الكرامة بعيدًا عن معايير الجسد والمال، لتتجلى في نور الروح، وصفاء القلب، وقوة الإرادة. هذا النص لا يُقرأ فقط، بل يُتأمل ويُستلهم، لأنه يذكّرنا أن الإنسان الحقيقي هو من يحيا بالله، ويصبر لله، ويصنع المجد من رحم الابتلاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *