القرآن في زمن الانفلات الرقمي

في عالمٍ يعج بالضوضاء وتتنافس فيه الملهيات على جذب انتباهنا، يظل القرآن كالفجر الصادق الذي يشق الظلام ليضيء طريقنا. في عصرٍ حيث تتسارع الأحداث، وتغرق عقولنا في عالم الافتراضات، يظل القرآن هو النور الذي لا يخبو ، والكتاب الذي يعود بالإنسان إلى نفسه، ويحيي قلبه في زمنٍ تسوده الغفلة.

حين نبتعد عن القرآن، تتكاثف علينا ظلمات الحيرة والقلق، لكن ما إن نعود إليه حتى يعود النور إلى حياتنا. في القرآن حياة، وسكينة، ورحلة نحو التوازن الداخلي. كأنما كل كلمة فيه تنبعث منها قوة عجيبة، تملأ القلب بالطمأنينة، وتحلق بالعقل بعيدًا عن ضوضاء هذا العالم.

تزدحم حياتنا اليومية بالعديد من الملهيات التي تسرق أعمارنا. نقضي ساعات في متابعة تطبيقات التواصل الاجتماعي، نستغرق في مشاهدة المسلسلات، ونبحث عن السعادة في مواطن الزيف. نعم، قد ترفع هذه الأنشطة مستويات “الدوبامين” في الدماغ، وهو ما يمنحنا شعورًا مؤقتًا بالمتعة أو الإثارة، لكن هذا الشعور سرعان ما يزول، ويتركنا في حالة من القلق أو التشتت. والأخطر من ذلك، أن الإفراط في هذه الأنشطة قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الدماغ، حيث يمكن أن يؤدي إلى تدمير الخلايا العصبية وإعادة هيكلة الدماغ بشكل يساهم في الإدمان. يصبح الدماغ مع مرور الوقت معتادًا على المكافآت الفورية ويطلب المزيد منها باستمرار، مما يشبه تأثير المخدرات على العقل.

في المقابل، يوفر القرآن نوعًا آخر من السلام الداخلي، لا يعتمد على هذه المكافآت اللحظية. إن القرآن يقدم لنا راحة نفسية مستدامة، ويعيد توازن العقل والروح. إنه يعيد بناء التوازن الروحي والنفسي بعيدًا عن الإدمان أو السعي وراء المكافآت الفورية، ويمنحنا هدوءًا عميقًا يشعرنا بالسكينة والطمأنينة.

القراءة والتلاوة ليست مجرد عمل روتيني، بل هي دعوة للتأمل والتدبّر. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد:24]. في كل آية تجد بحرًا من المعاني، وكل تدبر هو خطوة نحو الحكمة والسكينة التي لا توجد في أي مكان آخر. التلاوة الحقيقية هي التي تجعل من كل حرف فرصة لزيادة الأجر والتقرب إلى الله.

ألسنا جميعًا راحلون؟ ألم نسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يُقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتقِ، ورتِّل كما كنت تُرتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”؟ هذا الحديث يعكس أن لكل آية درجة في الجنة، وأن كل لحظة مع كتاب الله هي فرصة لنيل القرب من الله.

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم”، وهذا يشير إلى أن القلب إذا كان نقيًا، فإنه لن يشبع من كلام الله، لأنه مصدر الحياة والطمأنينة. وإن كانت الدنيا تزدحم بالضوضاء والملهيات، فإن القرآن هو النور الذي يضيء الظلمات.

كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “القرآن هو كتاب الله الذي فيه علم الأولين والآخرين، وهو حبل الله المتين، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك.” هذه الكلمات تذكّرنا بأن القرآن هو سبيل النجاة، وهو الحبل الذي يربطنا بالله.

الخوف لا يقتصر على أنفسنا فقط، بل يمتد إلى أطفالنا، وأجيالنا القادمة، وثروتنا البشرية التي هي أغلى ما نملك. نراهم يكبرون وسط عالم مليء بالضجيج والمشتتات، ونخشى أن يُحرموا من نور القرآن الذي نشأنا عليه. كيف نطمئن على مستقبل أمة لا يعرف جيلها الناشئ طريق القرآن؟ كيف نؤمِّن بناءًا متينًا لمجتمع تنهار فيه القيم من تحت أقدام الأجيال؟

إن الشباب هم العمود الفقري للأمة، وهم جسر العبور نحو المستقبل. إنهم الطاقات التي بها تُبنى الحضارات، وبهم ترتفع الرايات. لكن حين يبتعد الشباب عن القرآن، يتيهون في متاهات اللامعنى، وتضيع طاقاتهم في دوامات القلق، واللهو، والتشتت. نخشى على شبابنا من ضياع الاتجاه، من البحث عن القدوة في مواضع الخطأ، من الوقوع في فخ التقليد الأعمى والانبهار بما لا ينفع. إن لم نربطهم بالقرآن، فبماذا نربطهم؟ وكيف نرجو من شجرة بلا جذر أن تقف في وجه الريح؟ القرآن لا ينتزع من الشباب متعتهم، بل يُنقّيها ويمنحها المعنى. يمنحهم القوة بثبات القيم، والتميّز بسمو الأخلاق، والانتصار على النفس بسمو الإيمان. إن أعظم خدمة نقدمها لشبابنا اليوم، أن نعيد إليهم الثقة بالقرآن كرفيق ومرشد في درب الحياة.

وكما ذكرنا سابقاً فإنه عندما يكون القلب طاهرًا، يصبح في حالة استعداد دائم للانتفاع بكلام الله، وتزداد رغبته في التفاعل مع القرآن. لكن في عالمنا المعاصر، حيث تتكاثر الملهيات وتزداد الأمور التي تشد انتباهنا بعيدًا عن العبادة والتفكر في كلام الله، يصبح القلب مشغولًا ومثقلًا.

هذه الملهيات التي نشهدها اليوم، سواء كانت في شكل وسائل التواصل الاجتماعي،أو الانشغال بالمكاسب المادية، هي في حقيقة الأمر “رانًا” على القلب. والران هو غطاء أو طلاء يغطي القلب، بحيث يصبح غير قادر على الاستجابة أو التأثر بالكلام الطيب أو الهداية الربانية. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين:14]. وهذه الآية تشير إلى أن كثرة الذنوب والابتعاد عن الله يزيد من هذا الران على القلب، حتى يصبح الإنسان غير قادر على التفكر أو التأمل في القرآن، ويصعب عليه قبول الهداية أو الفهم الصحيح.

أثر هذا الران هو أن الإنسان يصبح في حالة من التبلّد الروحي، حيث يفقد القدرة على التفاعل مع الآيات الكريمة أو التفكير العميق فيها. عندما يكون القلب مغطى بالران، يصبح أكثر عرضة للتشتت، ويستسلم للملهيات التي تسرق وقت عبادته وتفكيره، ويصعب عليه الحصول على السلام الداخلي الذي يُحققه القرآن.

القرآن هو السبيل الوحيد لشفاء هذا الران. فعندما نعود إلى القرآن ونحاول تدبره، ونتفاعل مع معانيه، يبدأ القلب في العودة إلى طهارته الأصلية. تتفتح أبواب الفهم، ويستعيد الإنسان قدرته على التفاعل مع كلام الله، ويشعر بالنور الذي يزيل ظلمات هذا الران.

في النهاية، إن هذه الملهيات التي نغرق فيها، بما تحمله من زيفٍ وفتنٍ، تؤثر على قلوبنا بشكل كبير، لكن العلاج يكمن في العودة إلى القرآن. القرآن هو الشفاء الحقيقي للقلوب التي أصابها الران، وهو نور يعيد ترتيب حياتنا ويمنحنا التوازن الروحي الذي نفتقده في هذا العصر المليء بالتشتت.

نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “القرآن في زمن الانفلات الرقمي

د. ايمن عبد العزيز

ما أروع هذا النص الذي يأخذنا في رحلة إيمانية عميقة، تلامس القلب والعقل معًا، وتوقظ فينا شعورًا صادقًا بالحنين إلى نور القرآن وسط ظلمات العصر. لقد عبّر الكاتب بأسلوب بليغ عن الصراع بين الملهيات العصرية والنور الرباني، فكان طرحه نقيًّا، موزونًا، ينضح بالصدق والوعي. التدرج في عرض الفكرة، والانتقال السلس من تأثير الملهيات إلى العلاج القرآني، كان في غاية الإتقان.

لقد وُفِّق الكاتب في الربط بين العلم الحديث (مثل تأثير الدوبامين والإدمان) والهدي القرآني، مما أضفى على النص عمقًا فكريًا وروحيًا. كذلك، جاءت الاستشهادات بالآيات والأحاديث وأقوال الصحابة في مواضعها، داعمة للفكرة، وموحية بقيمة العودة إلى كتاب الله. هذا النص دعوة صادقة لإعادة التوازن إلى أرواحنا، ولبنة مباركة في بناء وعي قرآني يعيدنا إلى أنفسنا في زمن الغفلة.

بورك هذا القلم الذي كتب، والعقل الذي تأمل، والقلب الذي اهتدى.

عبدالناصر الغامدي

مقال رائع للدكتور نوار الغامدي سلط الضوء على واقع مؤلم تعيشه أمتنا اليوم، حيث أصبح الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي يزاحم، بل يطغى أحيانًا، على وقت كان ينبغي أن يُصرف لتلاوة كتاب الله وتدبر آياته. لقد لامس المقال جرحًا نازفًا في قلوب الغافلين، وذكرنا بخطر أن نكون ممن قال الله فيهم: “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا”.
إن الهجر لا يكون فقط بترك التلاوة، بل أيضًا بترك التدبر، والعمل، والتحكيم، والرجوع إليه في الشدائد. وتنبيه الكاتب إلى الحد الأدنى من التلاوة اليومية ضرورة لا غنى عنها، فحتى آيات يسيرة بتدبر وخشوع خير من ساعات تمضي في تصفح لا يثمر إلا الهم والشتات.
جزى الله الأستاذ نوار خير الجزاء على هذا المقال الذي جاء في وقته، وهو تذكرة نافعة في زمن الغفلة، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وألا نُكتب مع من هجروا كتابه لفظًا أو عملًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *