عندما تظهر العادات الخاطئة على السطح وتتسيّد المشهد، وتغيب القيم والمبادئ الإسلامية عن المجتمع، يطفو “الهياط” كإحدى العادات المقيتة التي تُمارس بلا وعي. إذ يبذل البعض المال في غير أوجهه المشروعة، سعياً لنيل مديح زائف أو إعجاب مؤقت، وكأنه حقق نصرًا وهميًا لا يسمن ولا يغني من جوع.
ينطوي الهياط على التبذير والإسراف، حتى وإن تكبد صاحبه الديون المُرهقة أو تنازل عن ضروريات حياته، فقط ليقال عنه: “فلان كريم” أو “فلان ما يقصّر”. في الحقيقة، هو يضرّ نفسه وأسرته ومستقبله، ويتخلى عن أعظم الحقوق عليه.
وتتجلى المأساة في صور مؤلمة: كم من أم مريضة تنتظر علاجًا وراحة، لكن ابنها آثر الولائم والمباهاة! وكم من أبٍ طاعن في السن يحتاج إلى رعاية، لكن ابنه آثر تصوير الأطباق الفاخرة في المجالس! ولا يتوقف الأمر عند الوالدين، بل يتعداهم إلى الأقربين: عمّ مريض، خال عاجز، أخت محتاجة، أو طفل يتيم. ومع ذلك، يفضّل الهياط على إرضاء الله ورسوله في أهله وجيرانه.
وقد حذّر القرآن الكريم من هذا الانحراف في مسار القيم والإنفاق، فقال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۖ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الروم: 38]
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27]
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» [رواه الطبراني وصححه الألباني].
ومن المؤسف أن الهياط لا يفرق بين شاب وشايب، بل قد يجتمع عليه كبار السن وصغارهم على حدّ سواء. ولشدة حبهم فيه، أخبرني أحدهم قائلاً: “لو كان الهياط دواءً يُباع في الصيدلية لاشتريته مهما كان الثمن!”، وهذا القول -وإن بدا مازحًا- يكشف عن خلل عميق في البنية النفسية والمعرفية، ويدل على فراغ داخلي، ونقص في الإيمان، وغياب التربية النفسية والعقلية السليمة.
إن حب الظهور والسعي وراء المديح ما هو إلا تعبير عن عقد نفسية مركبة، ونقص شديد في تقدير الذات، مما يدفع البعض إلى ستر ذلك بالهياط، فيلجأ إلى شراء ما لا يحتاجه، وتكليف نفسه ما لا يطيقه، وربما يغرق في ديون لا طاقة له بها.
وهكذا، تتسلل هذه الظاهرة إلى صميم الحياة الأسرية، فتهزّ أركانها، وتزعزع تماسكها. فالزوج الفقير، الغارق في الديون نتيجة حب التفاخر والإنفاق المفرط، تسلب منه أدواره الحقيقية رويدًا رويدًا، حتى يفقد مكانته كقائد حكيم. وقد قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، فما بال قوامةٍ تتهاوى إذا تهاوى معها حسن التدبير؟
إن الهياط لا يضر بالنفقة فقط، بل يضعف القيم الأسرية، ويفتت التماسك الاجتماعي، ويزيد من الخلافات بين الزوجين. لذا، من الضروري أن يُفهم مفهوم القوامة فهمًا سليمًا، مبنيًا على الحكمة والعدل والرحمة، والقدرة على تلبية حاجات الأسرة الأساسية، لا المظاهر الكاذبة التي تُفرغ الزوج من مكانته ودوره.
وتتجلى خطورة الظاهرة في أن البيئة الاجتماعية تلعب دورًا محوريًا في ترسيخها، إذ ينشأ “المهايط” في محيطٍ يمجّد المظاهر، ويقيم التقدير على الزيف والشكليات، مما يرسّخ لديه قناعات مشوهة تربط الكرامة والرجولة بالمبالغة في الإنفاق والاستعراض، حتى لو كان ذلك على حساب ضرورياته وحقوق من حوله.
وتزداد المشكلة تعقيدًا عندما تتجاهل البيئة تعاليم الدين التي تدعو إلى الاعتدال والتواضع، فتبدو ظاهرة الهياط وكأنها سلوك مشروع أو حتى مستحب، بينما هي مخالفة صريحة لهدي الشريعة.
قال تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26-27]
وقال أيضًا: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الروم: 38]
ومن واقع الحياة، كثيرًا ما نرى رجالاً يُرهقون أنفسهم في الولائم والمناسبات الباذخة، متجاهلين احتياجات أسرهم، فقط ليقال عنهم “كريمون”، رغم أنهم فقدوا المعنى الحقيقي للكرم، واستبدلوه بالرياء والاستعراض.
إن هذا السلوك المرضي الذي يغذّيه المديح الزائف، هو نتاج تراكمات معرفية ونفسية ناجمة عن بيئة تشجّع الهياط، وتغض الطرف عن قيم الاعتدال والتقوى. لذا، فإن مسؤولية التغيير لا تقع على الأفراد فقط، بل هي واجب جماعي يشمل الأسرة، والمدرسة، والإعلام، وكل من له أثر في تشكيل الوعي، لإعادة الاعتبار إلى القيم الحقيقية: الكرم المتزن، الرجولة المسؤولة، القوامة القائمة على الحقوق، والتواضع الذي يعكس النضج والإيمان.
إن مواجهة ظاهرة الهياط ليست محاربة للأفراد، بل محاربة للمفاهيم المغلوطة التي تكرّس السلوكيات الضارة، التي تُفرح الناس لحظيًا، وتُغضب الله، وتهدر الموارد، وتُشوه صورة المجتمع.
وختامًا، ما أجمل أن يُقال عن الإنسان: “عفيف، متواضع، نافع، بارّ بوالديه”، بدلاً من أن يُقال: “أطعم وأشبع وظهر في المجالس”، ثم يُذكر كنموذج للفراغ.
فلنربِّ أبناءنا على هذه القيم، ولنكن قدوة في السلوك قبل القول، لكي نحيا بكرامة، ونموت على القيم، ويذكرنا الناس بخير، ويرضى عنا الله.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب