في عالمنا اليوم يتسارع إنتاج المعرفة ويتضاعف تقريبًا كل بضعة أشهر أو بضع سنوات، وفي بعض الأحيان ربما يصبح التميز في مجال واحد مفتاحًا رئيسيًا للنجاح أو قائدًا رئيسيًا للفشل. وحيث أنه تُشيد الثقافات الإنسانية بـ “الشخص الموسوعي” القادر على الإلمام بمجالات متعددة وتخصصات مختلفة وهو شيء جميل عملًا بالمقولة الشهيرة (أن تعرف قليلًا عن كل شيء خيرًا من أن تعرف كل شيء عن شيء واحد) وهي مقولة صحيحة إلى حد ما، إنما تفرض علينا طبيعة العصر الحديث واقعًا جديدًا وهو أن العمق المعرفي في تخصص دقيق واحد هو ما يصنع الفارق أحيانًا.
ولكن ربما يكون هذا العمق المعرفي سيفًا ذا حدين؛ فإما أن يرفع الفرد إلى قمة التأثير والنجاح، أو ربما يدفعه إلى الانغلاق والفشل إن لم يُدار ذلك العمق المعرفي بحكمة ووعي شديدين.
فإن نظرنا إلى قطاعات مثل التكنولوجيا والطب والهندسة نجد أن المعرفة العميقة تصنع نجاحًا إستثنائيًا، وتُظهر بعض الأمثلة أن الخبراء الذين أستثمروا أعوامًا من أعمارهم في تعميق معرفتهم بمجال ضيق (كعلم البيانات الجينومية وهي البيانات المتعلقة بتركيب جينوم الكائن الحي ووظيفته ، أو علم تصميم الرقائق الإلكترونية) يصبحون أعمدةً أساس لا غنى عنها في عالمنا اليوم وربما غدًا. مثل الثلاثي Demis Hassabis, Shane Legg and Mustafa Suleyman ديميس هاسابيس وشانق ليق ومصطفى سليمان علماء الكمبيوتر مؤسسي شركة DeepMind الرائدة في الذكاء الاصطناعي، اللذين كرّسوا حياتهم لفهم التعلم العميق في عالم الكمبيوتر والبرمجيات، فتمكنوا من تطوير أنظمة غيّرت مستقبل الصناعة. هنا، لم تكن المعرفة الواسعة هي السر، بل الغوص في طبقات التخصص وإستخدامه بذكاء مع ربطه بتخصصات أخرى هو الذي أدى بهم للوصول إلى الابتكار الذي أحدث ثورة في عالم المعرفة وفتح أبوابًا لآخرين.
إن السبب وراء هذا النجاح يكمن في أن المعرفة المتخصصة تخلق قيمة نادرة . ففي سوق العمل، يصبح الخبير في مجال دقيق مُطلوبًا بدرجة عالية، لأن مهاراته لا يمكن إستبدالها بسهولة. كما أن العمق المعرفي يمنح الفرد قدرة على حل مشكلات معقدة قد تعجز عنها العقول العامة، مما يجعله محورًا وركيزة هامة في فرق البحث والعمل ولكن هناك خيط دقيق يفصل بين النجاح والفشل وهو الحكمة والمرونة العالية في إدارة المعرفة.
وفي نفس الوقت يحكي لنا التاريخ قصصًا عن المعرفة العميقة التي أصبحت فخًا قائدًَا للفشل عندما فقدت بعض الشركات والأشخاص القائدين لها بريقهم لأنهم تمسكوا بمعرفة عميقة لم يتم تطويرها فتقادمت وأدت إلى الفشل أو التأخر في اللحاق بركب التطور. مثل شركة كوداك التي كانت المسيطر على سوق التصوير الفوتوغرافي لعقود بفضل معرفتها العميقة بالأفلام الكيميائية، لكنها أصيبت بالفشل والإفلاس عندما تجاهلت ثورة التصوير الرقمي التي كانت هي نفسها قد ساهمت في اختراعها. هنا نجد أن المعرفة المتخصصة تحولت إلى عائق نفسي، حيث منعها التعود على النموذج القديم والشعور بالتفرد فيه من رؤية الفرص الجديدة.
فعلى المستوى الفردي، قد يُصاب الشخص المنغمس بعمق في تخصصه بـالجمود الفكري، فيفقد القدرة على ربط معرفته التخصصية العميقة بمجالات أخرى، أو أنه يتجاهل مهارات ضرورية مثل العمل الجماعي أو التواصل الإجتماعي والتطوير المستمر لمهاراته ومعرفته فيفقد بريقه ويتجاوزه الزمن. فإن العالم الذي يُتقن تفاصيل حل وفهم المعادلات الفيزيائية المعقدة، لكنه يعجز عن شرحها للجمهور لأنه لم يُطور مهارات التواصل لديه، قد يفشل في الحصول على تمويل لأبحاثه، أو يُساء فهم إنجازه.
ولكي تتحول المعرفة العميقة إلى نجاح دائم فعلى المرء أن يكتشف السر الذي لا يكمن في التخصص نفسه، بل يكمن في إستخدام التخصص نفسه بمرونة عالية مما يمكنه من بلوغ النجاحات التي يريدها، فالناجحون يستخدمون معرفتهم كأساس للصعود وليس كسجن مظلم مغلق عليهم وذلك ببناء مهارات تكميلية تسمح لهم بالتكيف مع التغيير المستمر للعالم من حولهم.
خلاصة القول إن التخصص العميق بحاجة إلى جذور تتعمق في تربة التخصص وإلى أجنحة تطير به في عالم المعرفة الواسع. لهذا ولكي تستمر القيمة العالية لصاحب المعرفة العميقة عليه أن:
– يعود نفسه على التكيف مع التغيير.
– التفاعل المستمر مع العالم الخارجي من حوله.
– الإيمان بأن التخصص العميق هو جزء من منظومة إنسانية كبيرة وواسعة.
أخيرًا، إن الفشل ليس نتيجة عن قلة في المعرفة ، بل عن عدم الإدراك بأن التخصص ليس نهاية الطريق والوصول إلى القمة، إنما هو بوابةٌ لإعادة إكتشاف الذات باستمرار.
الموضوع عميق وطويل وأدعوا الله أن يسعفني الوقت فأعود إليه.
عبدالعزيز مبروك الصحفي
مقالات سابقة للكاتب