عندما يغرق الحل في بحر مشكلة معقدة، يعجز الفكر عن إدراك المخرج، وتتداخل خيوط التبرير والتقليد، فيغيب الوعي وتُختنق الحقيقة.
في مقال سابق، تناولنا ظاهرة “الهياط” (أي التفاخر المبالغ فيه بالمظاهر دون مضمون حقيقي)، بوصفها سلوكًا اجتماعيًا مقيتًا، واليوم نغوص في عمق هذه الظاهرة، ونستعرض أبعادها النفسية والدينية والاجتماعية والتربوية والإعلامية والقيمية.
ما الذي يدفع الإنسان لإرهاق نفسه بالتزامات مادية كان من الأولى تجنبها؟ لماذا يختار أن يعيش المرء فوق قدراته المادية ، متكلفًا ومتصنعًا، ومفضلًا مظهر الوجاهة على جوهر التوازن؟ .
بل الأعجب من ذلك: لماذا يبذل الإنسان أمواله في مدح الأغنياء والتقرب إلى أصحاب الجاه، بينما يغفل عن التجارة الرابحة مع الله؟ أين الإنفاق على الأهل والأقربين والمحتاجين؟ أين الصدقة التي تطفئ الخطيئة وتداوي الروح وتُرضي الله؟
ليست المسألة مجرد تصرف مالي خاطئ، بل هي أزمة عميقة في النية والهوية، يعجز العقلاء عن تتبع جذورها.
من وجهة نظر علم النفس، يُفسَّر الهياط بأنه سلوك ناتج عن نقص تقدير الذات، فالشخص الذي يشعر في داخله بعدم الكفاية أو النقص، يسعى لتعويض هذا الفراغ عن طريق التفاخر بالمظهر، المال، أو العلاقات. وقد يرتبط ذلك أحيانًا بسمات اضطراب الشخصية النرجسية، التي تركز على الإعجاب الخارجي كوسيلة لإثبات الذات.
ومن منظور ديني، فإن الهياط والتفاخر يندرجان تحت الرياء، وهو من أشد ما حذّر منه الإسلام. قال ﷺ: “إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر… الرياء.” كما نهى الله عن الإسراف والتبذير فقال تعالى : ﴿ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾، وقال تعالى : ﴿إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين﴾. والتفاخر سلوك جاهلي قال فيه النبي ﷺ: “إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد.”.
في مجتمعات تُقاس فيها القيمة الاجتماعية بالمظاهر، يشعر البعض أن “الظهور” ضرورة اجتماعية، وأن الهياط شرط للبقاء في دائرة القبول، خاصة في المناسبات حيث يصبح الهياط استجابة خاضعة لضغط مجتمعي قوي ، لا فكراً ناضجاً و خيارًا حرًا بحت.
وحين يُربّى الطفل على أن قيمته في ملبسه أو سيارته أو هاتفه، ينشأ باحثًا عن ذاته في ما يملك، لا في من يكون. وإذا سمع أهله يتفاخرون أو يسخرون من من هم أقل مادياً أو لا يملكون هالة ومكانة إجتماعية، تشرب الطفل هذا المنطق حتى يصبح طبعًا متغلغلاً في أعماق نفسه.
ونجد أيضاً أنّ وسائل التواصل الاجتماعي غذّت سلوك الهياط، إذ تُظهر للناس قممًا مزيفة من الترف، فيظن البعض أن النجاح الحقيقي هو أن تعيش مثل هؤلاء، ولو على حساب دينك وراحتك. حيث يُسرف البعض ليحصل على “صورة” لا تعكس شيئًا من الواقع.
وربما يكون الهياط نتاجًا لفراغ قيمي وروحي، حين يغيب عن الإنسان مشروع شخصي أو معنى حقيقي لحياته. فيبدأ بالبحث عن ذاته في المظاهر، ويظن أن مكانته تُبنى بالصورة لا بالمضمون.
والإنسان الذي لا يحمل رسالة أو طموحًا راسخًا، قد ينشغل بتلميع ذاته زيفًا، لأنه ببساطة لا يجد ما يلمّعه صدقًا.
بعض الذين يلبسون وشاح الهياط تجدهم فقراء من الداخل ويتصرفون كأنهم كالأغنياء في الظاهر ، ويقيمون الولائم، ويوزعون الدعوات يمينًا ويسارًا، بل يحلفون بالطلاق على من يتأخرون عن الحضور، وكأن الحضور إلى ولائمهم فرض عين ، والاعتذار عن مناسباتهم جريمة لا تغتفر !
البعض منهم يمشي مزهوًّا بثوبه يدخل إلى الولائم التي صنعها بالدَّين، ويخرج منها بسمعة كاذبة لا تسمن ولا تغني من فقر.
يعرف أن كل ما يفعله ليس كرمًا، بل هياطًا مغلفًا بالديْن، ومطليًا بالادّعاء، وملطخًا بالظلم.
ومع ذلك، ما زال يظن نفسه عظيمًا.
وهو في الحقيقة مسكين… فقير من الداخل… أضناه الادعاء، وفضحته الأفعال.
وفي مثال آخر، قال لي أحدهم: “كنت لا أستطيع أن أحضر مناسبة إلا بثوب جديد، وشماغ مكوي بعناية، وسيارة فارهة – وغالبًا مستأجرة – وهدايا فوق طاقتي. لم أكن أريد أن أُفرح الناس، بل كنت أهرب من أن يُقال عني إنني دون المستوى. حتى تراكمت علي الديون، واكتئبت. وعندما عدت إلى طبيعتي، اكتشفت أن الناس لم يحبوني أكثر أو أقل… فقط أنا كنت أظن ذلك.”
كم من إنسان يبتسم أمام الكاميرات والناس، بينما يعيش نزيفًا داخليًا لا يراه أحد… يكرر نفس الخطأ مرارًا و تكراراً ، ويغرق في الديون، يُرهق روحه لإرضاء الآخرين، ويختبئ خلف مظاهر زائفة، يظنها مجدًا، وهي في حقيقتها قيد وذلّ وهمّ.
هنا يكون التساؤل الكبير ما الحل لهذه المشكلة العويصة؟ أول خطوة في العلاج هي الوعي. على كل فرد أن يسأل نفسه بصدق: هل أنا أُسرف لأجل مظهري؟ هل أشتري أشياء لا أحتاجها فقط لألفت الأنظار؟ إذا كانت الإجابة “نعم”، فقد بدأت طريق العلاج.
غيّر تعريفك للنجاح والكرم . النجاح ليس في ما يراك به الناس، بل في ما تراه نفسك أمام الله. قل لنفسك: “قيمتي في ذاتي، لا في سيارتي، ولا في صورتي.” استبدل قيمة “الظهور” بـ “الجوهر”، وقيمة “المدح” بـ “الرضا عن النفس”.
اجعل إنفاقك بوابة للثواب، لا للرياء. أخرج الصدقة في السر كما تحب أن تُخرج التفاخر في العلن. اذكر الله في كل تصرّف وفي كل صرف ، واسأله: “هل يرضيك هذا؟”
غيّر ثقافة “نفرح بك إذا تكلّفت” إلى “نفرح بك إن كنت على سجيتك”. لا تُجامل ولا تفتعل الهياط في المناسبات، ولا تمدح من يسرف على حساب دينه ودَينه. كن قدوة في الاعتدال… سيتبعك الكثير بصمت.
علّم أبناءك أن قيمتهم في ما يقدمونه لا في ما يلبسونه. امدح الخُلق لا الثوب، الفكر لا الهاتف. اجعل البيت حاضنًا للقيم لا للماركات.
قلّل متابعتك لحسابات “الاستعراض”، وابدأ بمتابعة من يبنون ويفكرون ويزرعون أثرًا. لا تجعل “ما تراه” مقياسًا لحياتك.
املأ حياتك برسالة، طموح، مشروع… فالإنسان الذي يحمل هدفًا لا يحتاج إلى زخارف.
نحن لا نُولد متفاخرين… نحن نتعلم ذلك من مجتمعٍ فقد البوصلة. ولكننا نستطيع أن نُعيد التوازن، حين نمتلك الشجاعة أن نكون على طبيعتنا.
إن التوازن ليس فقرًا، والبساطة ليست عيبًا. بل قد تكون أعظم ما تملك في زمنٍ أُشبع بالزيف.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب