قراءة في الذاكرة
لعل مزارع ( الدخيل ) هي الأولى في قائمة المزارع الإستثمارية في خليص ؛ ثم لحقت بها أخرى جمعت بين الإستثمار والسياحة – سنذكرها في مواضعها من السياق .
نرغب في تأطير هذه المرحلة للتقليل من ادعاءات الأسبقية ، وتوظيف الفواصل الزمنية في غواية التاريخ .
نعلم جيدا : أن صادرات خليص من المحاصيل الزراعية كانت ، مناط استشهاد المؤرخين والرحالة – عرب وأجانب – الذين كتبوا عن أسواق جده ؛ لكن هذا الأمر لم يكن حكرا على خليص ؛ بل نازعته أمكنة أخرى كوادي فاطمة على سبيل المثال للحصر . وهي حالة معقولة لا تحتاج إجهاد العقل في التفسير ؛ فما ذلك إلا لغزارة الماء ، وبكورية الأرض ، وتوفر اليد العاملة ، وضيق المناشط الأخرى إلا ماكان له صلة بالزراعة …
نرغب في تحديد تاريخ النهضة الزراعية مابين تأسيس مزارع الدخيل ، حتى طوفان ١٣٩٥ هجرية – ١٩٧٥ ميلادي : الذي جرف الأخضر واليابس ؛ بما في ذلك فواصل الملكيات ، وقنوات سقياها .
وكان بمثابة النهاية المأساوية ، والتاريخ ( الدرامي ) لنهضة زراعية وسياحية خاضت حروبا شرسة ضد شح الماء ، وتبعات مضخات ( الإرتواز ) على المياه الجوفية ، ومشروع العين العزيزية ، وانتهاء بسد المرواني .
ونبني رغبتنا – في هذا التحديد بالذات – على معطيات كثيرة منها : تحول الزراعة من مزاولة مهنية بوسائل قديمة في الحرث والسقيا إلى مشاريع تعتمد على الميكنة والخبرة الزراعية ؛ مما تمخض عن إنشاء مكتب زراعي ، وإغراء رجال الأعمال بالإستثمار المزدوج = مزرعة واستراحة .
ونذكر من هذه الاستثمارات ماعلق منها بالذاكرة : ” الدخيل – الجفالي – عمر باثابت – الزهراني – الزاهد – عبدالبديع – بالبيد – بادكوك – مزارع بخش ” ولم تكن العلاقة بين هؤلاء المستثمرين والأهالي متينة وبيضاء رغم اعترافهم بعوائد هجرة المال على نشاط السوق ، وعلى تأسيس حالة من التمدن ، وصناعة ظاهرة إعلامية للمنطقة .
ولعل هذا النفور يعود على قدرتهم على إصلاح الأراضي البور المهملة ، وعلى التنافسية غير المتكافئة على استحداث مزروعات جديدة كالفواكه – على سبيل المثال . هذا بالإضافة إلى ريبة المجتمعات التقليدية من المجاهيل الطارئة على النسق الثقافي المحلي .
من أبرز هذه المشروعات اللصيقة بذهني : مزرعة الدخيل ؛ ربما لعلاقة السيد صادق بـ ( خالي الشيخ حسن ، وتكرار وفادته وأبنائه = عبدالقادر وعبدالعزيز لمجلس الشيخ .
أما مزرعة السيد عمر باثابت ؛ فقد التقيت ابنته ( الدكتورة أبرار ) في بوسطن بأمريكا أثناء مرافقتي لابنتي ( الدكتوره رزان ) وهي تروي عن أبيها : أن جدها كان يأخذها معه إلى خليص ، وأنه يعرف الشيخ حسن ، ورافقه لزيارته بمنزله .
والثالثة هي مزرعة واستراحة الزهراني ؛ فقد حظيت بزيارتها مع بعض الأصدقاء والنافذين ، ولم تدهشني طرائق حياة النخبة ؛ فهي أقرب للبروتوكول التقليدي منها للعصرنه . وبعض الصور المسبقة مرهونة بقناعات صاحبها ، وليس بالضرورة حدوثها ، حتى لو توفرت إمكانياته .
وقد كفانا الكاتب والصحفي والإعلامي الأستاذ أحمد عناية الله – رئيس تحرير صحيفة غراس مشقة بعض البحث والتحري ، عندما قاده انتماؤه إلى جولة بصحبة الأستاذ عطاالله غنام في مصادر الماء بخليص ، ودون مشاهداته مع بعض استحضار المروي والمكتوب بنفس الصحيفة ( غراس ) تحت عنوان ” خليص واسترجاع الماضي ” ويمكن للقارئ أن يعود إليه ليكفينا – هو أيضا – بعض التفصيل .
مانود أن نشير إليه : ماذكره الأستاذ أحمد نقلا عن صحيفة أم القرى عام ١٣٨٠ هجرية أن ” خليص كانت تنتج مايقارب مليون كرتون برتقال في العام .
ولم أنسى أن صحيفة المدينة نشرت مقالا في تلك الفترة – يوم كانت خليص تستقطب الفعاليات الزراعية والسياحية والتسويقية على مسرح اجتماعي انفتح على قبول الآخر ، واستقبال بشائر النهضة . كان عنوان هذا المقال : خليص ” مصر الصغيرة ” ولك أن تغري مخيلتك للتحليق في مشاهد ورؤى هذه الحقول الخضراء الخليصية التي تشتبك مع النيل ، وتوظف عقلك لاستيعاب هذه الدرجة من مؤشر عجلة التطور !!! وقد كنت شاهدا على هذا العصر .

وسأروي نصا من هذه الملحمة- قبل كارثة السيل : كانت مزارع خالي ( الشيخ حسن ) قبل نصف قرن جنة تموج بالبساتين = فواكه وخضروات على اختلاف أنواعها ومذاقاتها ؛ حتى أن نتاجها التحصيلي يحتاج لثلاث سيارات ( لوري ) كما هو اسمها الشائع آنذاك ؛ ربما الآن ( شاحنه ) وتحضرني أسماء سائقي هذا المركبات وهم : عائد المغربي – رجاء الصعيدي – مبارك الصعيدي رحمهم الله جميعا ، ورحم الشيخ حسن . ولا يسعك إلا أن تقول : سبحان الله ” كل هؤلاء مروا من هنا !!!
وأخيراً : علينا أن نفقه : أن هذا التحول في النشاط الإنساني سنة كونية . فقد بدأ الإنسان في أوله بالصيد ، ثم الرعي ، ثم الزراعة بعد أن استقر على ضفاف الأودية ، وتحت مساقط المياه . ورغم أن معظم الأنشطة التالية انسلت من الزراعة كالتجارة والصناعة ، مما وسع إمكانية الشواغر المهنية ؛ إلا ان اهتمامات الإنسان تمحورت حول التعليم ومركزية القطاع العام الذي أمن له الوظيفة ؛ مما باعد بين الشرائح الاجتماعية ، وخلق طبقة وسطى أربكت دوائر الخدمة المدنية ، وطبقة نخبوية استأثرت بالمناصب والثروة ، وطبقة ( على الله ) الذين نازعهم الوافدون فتات المستهلك …
محمد علي الشيخ
مقالات سابقة للكاتب