في ذاكرتي مشهد كرتوني من زمن الطفولة ما زال يطرق أبواب الوعي كلما واجهت واقعاً مشابهاً. كان المشهد يبدأ بشخص يقف أمام شارع مكتظ بالسيارات المسرعة، يحاول العبور فلا يجد سبيلاً سوى الانتظار الطويل، وكأن الزمن قد توقف. السائقون لا يتوقفون، ولا يعيرون وجوده أي اهتمام. يتوافد عليه أناسٌ آخرون في ذات المأزق، فيتجمعون ويصرخون بصوت واحد: “دعونا نعبر؟!”. مشهد بسيط، لكنه حمل رسالة ظلت راسخة في الوجدان.
مرت الأعوام وتكرّر المشهد، لكن هذه المرة في حياتي الحقيقية. أقف على رصيف الشارع، أنظر إلى السيارات المتدفقة بسرعة، أبحث عن لحظة إنسانية، عن سائق يملك الوعي والرقي الكافي ليبطئ قليلاً ويسمح لي بالعبور، لكنني غالباً لا أجد. ترتفع في داخلي نفس الصرخة: “دعونا نعبر؟!”
إن حق العبور للمشاة ليس ترفاً، بل هو جزء من حقهم في الحياة. احترام هذا الحق ليس قانوناً فحسب، بل هو مقياس لتحضر المجتمعات ووعي أفرادها. ففي الدول المتقدمة، تقف السيارات بمجرد أن يضع المار قدماً واحدة على الممر، لا لأنه أقوى، بل لأنه إنسان. أما في بعض مجتمعاتنا، فيضطر العابر إلى المجازفة بحياته في كل مرة يقطع فيها الشارع، وكأنه يخوض معركة يومية مع اللامبالاة.
الاحترام في الشارع يبدأ من احترام الإنسان، أياً كان موقعه. والسائق الواعي لا يقيس تحضره بسرعة سيارته، بل بسرعة تجاوبه مع نداء الإنسان الآخر. تسهيل عبور المشاة، خصوصاً كبار السن، والأطفال، وذوي الإعاقة، هو سلوك حضاري قبل أن يكون واجباً قانونياً.
فلنعد النظر في سلوكنا اليومي. دعونا نتوقف قليلاً عند كل رصيف، لا لننظر إلى هواتفنا، بل لنرى إن كان هناك من يحتاج أن نعطيه فرصة للحياة.
دعونا نعبِّر عن إنسانيتنا.
دعونا نعبِّر عن وعيٍ حقيقي.
ودعونا نسمع صوت أولئك الذين ما زالوا يصرخون في صمت:
“دعونا نعبر؟!”
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب