خليص في التاريخ المنسي ( 11 )

قراءة في الذاكرة
ليس ثمة لبس بين طريق الهجرة ، وطريق الأنبياء ؛ إلا في تقديم إسم ، وتأخير إسم حسب المواضعات التاريخية والأفضلية .

ابتدأ الأمر في أوله عندما تقبل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مشورة علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – عندما ارتأى بدء التاريخ بالهجرة النبوية لأنها ” انتقال من بناء الفرد في مكة المكرمة إلى بناء الأمة في المدينة المنورة .

لذا هذه ( المسالك والمسارات ) من ميراث النبوة ، وتراث الحرمين الشريفين : لا تتقيد بالحدود السياسية ، ولا تؤطر بالمعالم الجغرافية ؛ فهي تراث للأمة الإسلامية .

وقد كان مايسمى بـ ( الركب المكي ) جزءا من هذا التراث الذي يستحضر بداية التاريخ ، ومشقة الرحلة ، ومحطة الوصول .

كان ( الركب ) في الطريق إلى مكه ” يسلك طريق الأنبياء الذي اتخذ منه عليه الصلاة والسلام طريقا لحجته وعمرته ، كما كان المسلمون يفعلون ذلك في القرون الثلاثة الأولى للهجرة النبوية ” وهو الطريق الذي هجرته قوافل الحج والعمرة منذ عشرة قرون بسبب تطور الأحوال الاقتصادية والمعيشية .

ويضيف بعض المؤرخين إلى تلك الأسباب التي أدت إلى هجرة الطريق ، وانقطاع ذكر ( الركب ) : ” ما أشيع عليه من بعض الأفاقين ، والقدح في أهله ، بدواع جاهلية وادعاءات كيديه بغرض الانتقاص من شأن الحرمين الشريفين وأهلهما ” ويبدو لي : أن هناك بعض الممارسات التقطها الراصدون المغرضون عززت هذا التوجه ، وشوهت أهمية الركب وقيمه !!!

يبدأ الركب المكي من ( التنعيم ) باتفاق المؤرخين الذين تتبعوا الطريق الذي يسلكه الركب من مكة المكرمة .

ولسنا معنيين بذكر مراحله ، ومتابعة قوافل رحلته ؛ فقد غلبت على اهتمام المؤرخين والرحالة ، وأصبحت معروفة مواقعها وقياسات أبعادها ، والقبائل التي تسكنها مروراً بعسفان حتى خليص .

وقد سبق أن قلنا ” أن هذا الطريق توقف بسبب تطور الأحوال الاقتصادية والمعيشية ” لكنه بقي كجزء من التراث تحييه جماعة من مكة على نطاق خاص وضيق ، وبنفس وسائل النقل باستثناء الإبل = الخيول والحمير.

وكانت خليص إحدى استراحاتهم – يبيتون فيها ليلة ، ويتزودون .

في العام ١٣٨٠ هجرية الموافق للفترة ١٩٦١ ميلادي : وكنت طالبا بالصف السادس بمدرسة أسامة بن زيد الإبتدائية ، وكان أخي ( عبدالعالي ) رحمه الله ) يعمل بائعا بإحدى محلات خالنا ( الشيح حسن ) في الفترة المسائية بسوق المغاربة : رأيت بضعا من هذا الركب = بقايا هواة يستحضرون عبق التراث ، ويأخذون قسطا من الراحة والتزود : فيما كان يسمى ( قهوة سعيد العود ) في الركن الغربي من السوق ، وامتداد مزرعة بالبيد جهة الشمال : شدني إليه فضول الناس ؛ كأنما كانوا يعرفونهم . وعلمت أنهم يحتفلون ليلا : ربما يمارسون طقوس المزمار . هذه هي الصورة الوحيدة التي التقطتها الذاكرة ، ولا أعلم ماقبل ومابعد !!! لكننا سنكتفي بنفض الغبار عن الذاكرة ، ونضيئ شمعة في نفق النسيان ؛ لعلنا نوقظ التاريخ الغافي ؛ فكلما رحل جيل حمل معه جزءا من المرجعيات المعرفيه ، تماما كمثل الحقب التاريخية تتوارى بأحداثها كقافلة ، يطويها المسير حتى تغيب عن الأنظار.

وتعتمد المجتمعات على الرواية الشفهية في استحضار الأحداث ؛ ومن ثم تتناقلها الأجيال ؛ حتى تتلف نسختها الأصلية ، وتقبر مع رواتها الأوائل .

والركب المكي هو ضحية غياب تواتر الرواية الشفهية ، وخطيئة تقصيرنا في التدوين المبكر . والعجيب : أننا عندما نعثر على معلومة نتعامل معها كفكرة عذراء لم يمسها سوانا ، وآن من كان قبلنا ” هم بها وهمت به ” !!! لذا يرى البعض تاريخ خليص منظومة من المفاجآت ، تكتشف أول مرة . ولذا … لا أحد يفتيك ؛ حتى ( مالك ) في المدينه …

أنا أحد هؤلاء الضالين : كل قراءة لي جديدة ، واكتشاف جديد ، وسفر جديد ، ورحلة مع أصدقائي الذين سبقوني إلى الضفة الأخرى من النهر …

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “خليص في التاريخ المنسي ( 11 )

احمد محمد حميد الصحفي .

ما شاء الله تبارك الله اخي القدير ابا سامي ، كم كنت عظيما وما زلت وفقك الله وسدد خطاك……
احمد محمد حميد الصحفي .

ابو ياسر القريقري

احسنت للذكرى وقد امتد زمن الركب حتى اواخر الثمانينات الهجرية وبعضهم يزيد المدة حتى بداية التسعينات من القرن الماضي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *