قراءة في الذاكرة
ليس ثمة لبس بين طريق الهجرة ، وطريق الأنبياء ؛ إلا في تقديم إسم ، وتأخير إسم حسب المواضعات التاريخية والأفضلية .
ابتدأ الأمر في أوله عندما تقبل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مشورة علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – عندما ارتأى بدء التاريخ بالهجرة النبوية لأنها ” انتقال من بناء الفرد في مكة المكرمة إلى بناء الأمة في المدينة المنورة .
لذا هذه ( المسالك والمسارات ) من ميراث النبوة ، وتراث الحرمين الشريفين : لا تتقيد بالحدود السياسية ، ولا تؤطر بالمعالم الجغرافية ؛ فهي تراث للأمة الإسلامية .
وقد كان مايسمى بـ ( الركب المكي ) جزءا من هذا التراث الذي يستحضر بداية التاريخ ، ومشقة الرحلة ، ومحطة الوصول .
كان ( الركب ) في الطريق إلى مكه ” يسلك طريق الأنبياء الذي اتخذ منه عليه الصلاة والسلام طريقا لحجته وعمرته ، كما كان المسلمون يفعلون ذلك في القرون الثلاثة الأولى للهجرة النبوية ” وهو الطريق الذي هجرته قوافل الحج والعمرة منذ عشرة قرون بسبب تطور الأحوال الاقتصادية والمعيشية .
ويضيف بعض المؤرخين إلى تلك الأسباب التي أدت إلى هجرة الطريق ، وانقطاع ذكر ( الركب ) : ” ما أشيع عليه من بعض الأفاقين ، والقدح في أهله ، بدواع جاهلية وادعاءات كيديه بغرض الانتقاص من شأن الحرمين الشريفين وأهلهما ” ويبدو لي : أن هناك بعض الممارسات التقطها الراصدون المغرضون عززت هذا التوجه ، وشوهت أهمية الركب وقيمه !!!
يبدأ الركب المكي من ( التنعيم ) باتفاق المؤرخين الذين تتبعوا الطريق الذي يسلكه الركب من مكة المكرمة .
ولسنا معنيين بذكر مراحله ، ومتابعة قوافل رحلته ؛ فقد غلبت على اهتمام المؤرخين والرحالة ، وأصبحت معروفة مواقعها وقياسات أبعادها ، والقبائل التي تسكنها مروراً بعسفان حتى خليص .
وقد سبق أن قلنا ” أن هذا الطريق توقف بسبب تطور الأحوال الاقتصادية والمعيشية ” لكنه بقي كجزء من التراث تحييه جماعة من مكة على نطاق خاص وضيق ، وبنفس وسائل النقل باستثناء الإبل = الخيول والحمير.
وكانت خليص إحدى استراحاتهم – يبيتون فيها ليلة ، ويتزودون .
في العام ١٣٨٠ هجرية الموافق للفترة ١٩٦١ ميلادي : وكنت طالبا بالصف السادس بمدرسة أسامة بن زيد الإبتدائية ، وكان أخي ( عبدالعالي ) رحمه الله ) يعمل بائعا بإحدى محلات خالنا ( الشيح حسن ) في الفترة المسائية بسوق المغاربة : رأيت بضعا من هذا الركب = بقايا هواة يستحضرون عبق التراث ، ويأخذون قسطا من الراحة والتزود : فيما كان يسمى ( قهوة سعيد العود ) في الركن الغربي من السوق ، وامتداد مزرعة بالبيد جهة الشمال : شدني إليه فضول الناس ؛ كأنما كانوا يعرفونهم . وعلمت أنهم يحتفلون ليلا : ربما يمارسون طقوس المزمار . هذه هي الصورة الوحيدة التي التقطتها الذاكرة ، ولا أعلم ماقبل ومابعد !!! لكننا سنكتفي بنفض الغبار عن الذاكرة ، ونضيئ شمعة في نفق النسيان ؛ لعلنا نوقظ التاريخ الغافي ؛ فكلما رحل جيل حمل معه جزءا من المرجعيات المعرفيه ، تماما كمثل الحقب التاريخية تتوارى بأحداثها كقافلة ، يطويها المسير حتى تغيب عن الأنظار.
وتعتمد المجتمعات على الرواية الشفهية في استحضار الأحداث ؛ ومن ثم تتناقلها الأجيال ؛ حتى تتلف نسختها الأصلية ، وتقبر مع رواتها الأوائل .
والركب المكي هو ضحية غياب تواتر الرواية الشفهية ، وخطيئة تقصيرنا في التدوين المبكر . والعجيب : أننا عندما نعثر على معلومة نتعامل معها كفكرة عذراء لم يمسها سوانا ، وآن من كان قبلنا ” هم بها وهمت به ” !!! لذا يرى البعض تاريخ خليص منظومة من المفاجآت ، تكتشف أول مرة . ولذا … لا أحد يفتيك ؛ حتى ( مالك ) في المدينه …
أنا أحد هؤلاء الضالين : كل قراءة لي جديدة ، واكتشاف جديد ، وسفر جديد ، ورحلة مع أصدقائي الذين سبقوني إلى الضفة الأخرى من النهر …
محمد علي الشيخ
مقالات سابقة للكاتب