خليص في التاريخ المنسي ( ١٧ )

قراءة في الذاكرة 

كانت حارة المغاربة – أو حي المغاربة – سمها ماشئت : محاطة بسور من ( الطرفاء والأثل ) بل حتى في الداخل – حيث ينصف الحارة طريق ، من شرقها إلى غربها ، مارا بما سمي فيما بعد ( السوق الصغير ) لكن الكثافة الشجرية من هذه النباتات ، تلتف على الطريق إلى السوق الكبير ، فاصلة بينه وبين الحارة = تحديدا سكنى ( المواليد ) ولا تترك لك سوى ممرا ضيقا ، تعبره بصعوبة إلى السوق الكبير ( إليه ومنه ) في هذا الحيز المكاني المخبوء معمل لإصلاح الفضة وتلميعها . يشتغل فيه بالتناوب ( هليل الجبرتي – ثلاب المولد ) حسب فراغهما .

ولم يكن القصد وصف جغرافية الحارة ، إنما الاستدلال على ضيق الصنعة لسلعة رائجة يوم الناس ذاك ، وهي الفضة . وقد كانت تقدم للعروس ضمن متطلبات مايسمى ب( الدبش ) أو الصيغة . وتشكل في الغالب ( الحلي والزينة للنساء ) ومن بين رموز تجارها المحليين الشاعر = محمد بن عبدالحفيظ المغربي – وأخيه عبدالحكيم . وبمعنى أقرب إلى المصطلح المعاصر = تجار الشنطه . وهي مهنة تتطلب خلفية معرفية بالأمكنة والشخوص ، ومتطلبات السوق .

كان المأمول أن تحظى هذه المهنة بأهمية ترقى إلى اشباع السوق ، وإيجاد شواغر عمل ، وتنمية المهارات ؛ وليس هذا المحل المتواضع – وفي الحارة نفر كثر قادرون على حمل ( الشيلة ) !!! وفي الواقع لم تتطور عمليات البيع والشراء في سوق المغاربة ، ولم تخرج من الضيق ( دكان ) إلى السعة ( سوبر ماركت ) ومن البيع ( بالتجزئة ) إلى البيع ( بالجملة ) مما أوجد فراغات ملأتها الجماعات المتحركة = التي اشتغلت على صيانة الأدوات المنزلية – كاللحام والجلي والتبييض . أو الجوالة ( الحوامة ) وغالبهم فلسطينيين : الذين استثمروا عدم تمكين النساء من التسوق خارج البيت في تلك الفترة الزمنية – وقد كان أمرا شائعا – فلبوا حاجاتهن للملابس والعطور والبخور ، والأمشاط ، ودهون الشعر ، وكريمات – منعمات الجسم …

وفي الواقع يمكننا فتح الباب على اخفاقات سوق المغاربة . صحيح – كان محميا ومراقبا تحت إشراف ناظر السوق الشيخ محمد بن مرعي ؛ فلم نسمع من الرواة بسرقة ، أو عملية نصب ، أو غش ؛ لكنه لم يتجاوز الجمود إلى حالة نشطه . وبقي قاصرا على تجارة المواد الغذائية . فقد خلا من محلات ( الجزارة ، والذهب والفضة ، والأواني المنزلية ، والملبوسات سواء ماتتعلق بالرجال أو النساء … الخ ) حتى أن اللحوم كانت تباع بـ ( الكوم ) ولإبراء الذمة كان ( المفوض ) بتقسيم الذبيحة : يضع أرقاما على كل ( كوم ) بعدد المشاركين ، واختيارك الرقمي هو نصيبك في التوزيع !!!

وقد نشأت حرف داخل الحارة تعتمد على السعف والليف والصوف ك( الحصير والزنبيل والقفة … والمشدات ) فيما يشبه في الإصطلاح الحديث = الأسر المنتجة ؛ لكن مايحسب لسوق المغاربة هو : مانشأ بجانبه مايسمى ب( الحراج = المزاد ) أو سوق الجمعة – كما كانت تسمى مواقيت هذه العمليات بأيام الأسبوع في أماكن أخرى من جغرافية المملكة . وتتنوع فيه المزادات بتنوع المحاصيل والماشية ، وهو وفير العائدات الربحية ؛ إلا أن مايحد من تعميم فائدته المالية هو المحسوبية واحتكار بعض الممارسين لنشاطه !!!

أزيل كل الشجر البري المتطاول ، الذي يشعرك بجمال الخضرة ، ونكهة البلل ، ورائحة المطر ، وأن السماء والأرض على تواصل ، وأن الله معك . وغادر الجبرتي والمولد وأهل السوق . والشيخ الجليل مات ، ولحق به من لحق . وتغير وجه المكان ، وتفرق ساكنوه في فجاج المدن !!!

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *