في حضرة الغياب

تبحث عن الظل داخلك، وفي أوراقك المبعثرة، وبين ركام حزنك، لتعيد تركيب الصورة، وترميم الذكريات التي سطا عليها الزمن، وباعد بين مفاصلها.

تعود علاقتي بـ (علي الرابغي) إلى ما قبل أن أتعلم أبجدية الكتابة. ولا أستطيع تحديد الفاصلة التي وضعها (القدر) بين الزمانين: قبل وبعد؛ لكنني أعي حالة نشطة تؤرق داخلي وتلحّ على الانكشاف.

كان ذلك في المرحلة المتوسطة – السنة الثانية (1382 / 1383 هـ). كلفنا معلم اللغة العربية بكتابة موضوع إنشاء بعنوان: «بنى رجل ثري مدرسة ومسجدًا ومستشفى في القرية، فما تأثير ذلك عليهم؟»

وفي اليوم التالي، طلب مني الوقوف أمام الطلاب، ثم أعلن بثقة وحماس، كأنما يعلن عن فائز بجائزة: «محمد، ستكون كاتبًا في يوم من الأيام».
ولا يزال الأستاذ علي دويدان – مصري الجنسية – ثريًا في ذهني، مهمازًا لا يكفّ عن الوخز.

أزعم أنه سماني – منذ ذاك – اسمًا لا أخطئه ظاهرًا وباطنًا، يضاف إلى سجل الأحوال المدنية كهويّة مكتسبة!
ذلك السخاء بقي حيًا وثريًا، يعيش في زاوية آمنة، محمولًا على أكتاف الأمل، يقاوم الإهمال.

ومن رابغ المرحلة المتوسطة – الحكاية الأولى لشهرزاد في ليلتها الأولى من الألف – إلى جدة والتعليم الثانوي في المعهد العالي لإعداد المعلمين – الحكاية الثانية لشهرزاد في ليلتها الثانية من الألف – حيث قادتني الظروف أثناء دراستي إلى العمل في مكتبة خزام، لتحقيق مطلبين:
الأول: الإيفاء بمتطلبات أسرتي، إذ لم تكن مكافأة المعهد تغطي الضروري من النفقات.
والثاني: تنامي شغفي بالقراءة، والبحث عن بيئة ثقافية تدعم شخصيتي المغرمة بالظهور.

بعد تخرجي لازمني هذا الهاجس؛ فأدمنت القراءة حتى استبان مناخ راحلتي، وأقمت حيث نزلت.
امتدت فترة التجريب قراءةً وكتابةً، وانتقالًا بين القَصّ والرواية والنقد.
كانت أول مغامرة مجموعة نصوص انتقيتها، حسبت أنها القطاف الذي حان، ودفعت بها إلى (دفتر) عتيق من تلك الشائعة آنذاك كمواليد (1 / 7).
ولم تكن فرص النشر متاحة كما هي الآن، وكانت سلطة النخبة تتسيّد المشهد، وأنا القادم من القرية على جملٍ هزيل، أرقب الموقع وأرصد السانحات من الفرص كبدويٍّ نزل قريةً يسأل عن الكريم فيها!

أشار عليّ الأستاذ عبدالعليم حسن الشيخ – الذي تربطني به قرابة ومصاهرة وزمالة مهنة – أن أدفع بمحاولتي إلى الأستاذ علي محمد الرابغي، الذي بدأ حياته المهنية في السلك التعليمي، حيث تولى إدارة النشاط الرياضي في تعليم جدة، قبل أن ينتقل إلى بلاط الصحافة ليبدأ رحلة طويلة ومتميزة.

وكان للأستاذ عبدالعليم سابقة معرفة به؛ فهو من جيرانه السبعة وعديله، وكثيرًا ما جمعتهما المناسبات العامة والخاصة، الاجتماعية والرسمية، ويعي دالّته ونفوذه في المشاغل الصحفية، وتوسع علاقاته بين دوائر الفاعلين في المشهد الثقافي، وقبل هذا وذاك، تبنّيه الكريم والمتأصّل في خدمة الآخر.

في 25 رجب 1392 هـ نُشرت أول قصة لي في جريدة المدينة بعنوان: العودة إلى الصحراء.
وفي 28 رجب 1393 هـ كتب سباعي عثمان في جريدة المدينة (العدد 2860):

> «هذا الشاب خامة جيدة يعيش في قرية نائية حيث يمتهن التدريس. بدأ على هذه الصفحة بعض قصصه القصيرة الناجحة عن طريق زميلنا علي الرابغي. محمد علي الشيخ يواصل نشاطه وإن كان في بطء… وأنا أتوسم فيه مستقبلًا مشرقًا للقصة القصيرة.»

 

وفي 2 شعبان 1393 هـ كتب عبدالله الجفري في جريدة البلاد (العدد 4417):

> «محمد علي الشيخ كاتب شاب… صنع له الزميل علي الرابغي عجلات من مطاط، ومهد له سباعي عثمان طريقًا وعِرًا شائكًا…»

 

لم يكن هذا الاستطراد أنانيًا، ولا بناءً يشغلك مظهره عن مصمّمه، إنه يشير إلى منابع النهر لا إلى جيرانه.
كان علي الرابغي رجل المرحلة، امتدت مسيرته الإعلامية لأكثر من ستة عقود، ورافقت تطورات المملكة على مستوى الفكر والثقافة والإعلام.
كل الحكايا قصّتها شهرزاد على امتداد ألف ليلة، ونسي الناس الحكايات، وبقيت شهرزاد قابضةً على الأزمنة، تحفر ذاكرتها المتيقّظة، وتنهي حكايتها الواحدة بعد الألف.
وليس غير عبدالعليم الشيخ، وعلي الرابغي، وسباعي عثمان، وعبدالله الجفري، وأنا شاهدين على شهرزاد!

حمل علي (رابغ) ذاتًا حية، علامةً فارقة لا تبرح شخصه، لازمته حتى في حقائب سفره، وكأن امتنانه لها كبرّ والديه؛ فحُسن الاسم واللقب = الشخص والمكان.
وبقي (علي) سيرةً حاضرة في التاريخ لا تغيب، ما بقيت رابغ رفيقة رحلته، كـ(نور) أم مروان.

إلى روح أخي علي محمد الرابغي، الذي بارك أول خطوة، فحلّت البركات على طريق الألف ميل.

 

 

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *