خليص في التاريخ المنسي ( 19 )

قراءة في الذاكرة

من باب منزلي المحاذي للطريق الأسفلتي، الذي يفصل الشيوخ عن المغاربة، والذي يؤدي إلى مسجد الشيخ حسن بن عبدالصمد الشيخ، كنتُ كل مساء ألتقي بالساكنين على الجانبين؛ من شرق الحارة حتى مغربها.
كان هذا الممر عامرًا بالتحية والسؤال. وكل الذين مروا من هنا على وضوء وتقوى، دافئة قلوبهم بالاستغفار، وشاخصة أبصارهم حيث تُقام الصلاة.

كانوا قد ألقوا حمولتهم عن أكتافهم، ونثروا ما في جيوبهم من مغانم النهار التي سال فيها العرق والدمع؛ كأنما هم في غزوة مع رسول الله ﷺ. ثم يمموا شطر المسجد فرادى وجماعات.

من عام 1405هـ حتى 1447هـ، من بدايات الرحيل المفاجئ عن أفياء السهولات والمنامات الحالمة ومراجيح الشباب وغواية الكتب، حتى أطراف المدينة – الحي المطرود من رحمة الله، والمأزوم بجيرانه: غليل والنزلة – خطيئته أنه جنوبي!

على امتداد هذا التاريخ، وقبله، كانت أسماء أولئك الناس وسحناتهم تلازمني كصورة أبي.
توثقت علاقتي بهم حد التماهي، ولم يسقط أحد منهم من الذاكرة؛ حتى بعد أن رحلوا.
ولم يملأ مكانهم جار أو رفيق درب، كأننا كنا شهود عصرٍ يذكّرك بمنازل الصحابة والصلاة جماعة.

جبيرة – طاهر – عبدالحكيم – عمران الجمرك – عبدالمالك حبيب – نبيه – حماده وابنه عبدالمحسن – مريع – الدريوشي – حمد وابنه محمد – محمد سعد – محمد عبدالحفيظ – عمران شاكر – أحمد خلف
وآخرون فَتَنَتني أسماؤهم بفعل التقادم وندرة اللقاء.

كنت أشعر معهم بمتعة الرفقة، ولا زلت أحفظ بعض التحايا التي كانوا يبادرونني بها:

تحية جبيرة: «مرحبًا مليون» – وهي التحية الجنوبية التي لم أعرف أصلها إلا بعد اتساع معرفتنا بلهجات مناطق المملكة.

تحية طاهر: «هلا بالشيخ»

تحية عمران الجمرك: «مرحبًا زمزم»

سؤال عبدالحكيم الدائم: «خالك طيّب؟»

وعروض حماده: «السمن متوفر ورخيص!»

وسؤال حمد: «خالك ما جاله ضيوف اليوم؟»

كلهم رحلوا وغادروا الدنيا، وبقيت الدور صامتة صمت الأطلال؛ بعضهم استعجلهم الموت، وبعضهم تمناه.

عاشوا، ولم تكن حياتنا تختلف عنهم، وإن كانوا ينظرون إلينا بغِبطة، لا لزيادة دخلنا، بل لأنهم يرون أننا نأخذها بالساهل، وهم يعافرون من مطلع الشمس حتى غروبها لينتزعوا الريال من بطن الشقاء.

عندما أصل بيتي في الأعياد، أقف متأملًا:
كيف نفضت الشوارع كل المشاة، وأطفأ السكون نورها، وخيّم الحزن الجنائزي على البيوت التي كانت ملأى بالحياة، وعلى رفوفها صُفّت سجادات الصلاة، وقوارير العطر، والمسابح.

ولم يكن المسجد للصلاة فقط؛ فإن وظائفه تتعدى إقامة الشعائر إلى منشط إنساني – منظومة من العمل الاجتماعي والخيري والشورى.

في داخله تتلاقى الأرواح، وتهذّب النفوس، ويُفتقد الغائب، ويُهنَّأ الرابح بحج أو عمرة أو ولد أو منصب أو رزق، ويُدعى للمريض بالشفاء، ويطمئن البعض على البعض.
أولئك قوم في بيتٍ من بيوت الله.. أولئك قوم في حضرة الله.

رحم الله الشيخ حسن بن عبدالصمد الشيخ؛ فلولا هذه المكرمة لما جمعتنا السبل، وآخى بيننا الطريق.
ويكفينا أننا جيران المسجد؛ فلا يغيب عنك صوت المؤذن، ولا تسهو عن مواقيت الصلاة.

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *