خليص في التاريخ المنسي (٢٠)

معيار اختبار البلدية، وشهادة نجاحها هو : مدى اسهامها في (تمدين) القرية، ونقلها من العشوائية إلى ثقافة النظام . ومع تجاوز بعض الأراء المائلة للتطرف ، أو المائلة للكمال ، أو المغرومة بالسخط ؛ فإنه من العدل أن نشيد بفاعلية بلدية خليص ، وننصف دورها منذ تأسيسها . وأول مايخطر على الذهن في تفكيك بنية مشاريع بلدية خليص هو : ( أولا ) توسيع الفواصل بين البيوت التي استدعاها التشكيل الاجتماعي ، وطلب الأمان ، وتحصين الحمى – وهي ظروف لا زمت ( النزل ) في كل الجماعات ، وليست قاصرة على خليص – ومن ثم فك الإختناق بين البيوت ، وتحويل ( دروب المشاة ) إلى ( سكك ) سيارات ، وفتح فضاءات للتهوية ، ومنافذ للترويح . وهو : ( ثانيا ) تنظيم السوق من حيث – الترخيص – الواجهات – الرقابة – والأسعار – وحماية المستهلك . وهو : ( ثالثا ) تأمين إسكان بديل = مخططات سكنية بموجب اشتراطات الصلاحية والأحقية ، وتوفر الخدمات . وهو : ( رابعا ) خدمة مدخل القرية بخلق حالة جاذبة من الجمال ، ودالة على هوية القرية . وتعطي انطباعا بذائقة مترفة للمكان والمسؤول …
لو أردنا تطبيق هذه الفرضيات على بلدية خليص ، ينبغي أن نكون حذرين في التعميم ؛ لأننا ندرك أن الكمال عصي على النوال – مثله كمثل كل الحقائق المطلقة ؛ لكننا نعلم من الشواهد مايضعنا في مقاربة من اليقين : بأن الأمور سارت على وجهتها المقبولة ، والمرضي عنها ؛ ومن باب ” ليس في الإمكان أكثر مما كان ” !!!
كانت حارة المغاربة كما هي في نشأتها الأولى = النزلة ، لا تتمدد ؛ بل تدور على نفسها ، وتلتف بيوتها كشجر الغابة متشابهة ، ومتلاصقة . يدخل في تشكيلها العامل الأسري ، ك( القرابة والمصاهرة ) وكانت بعض مواد مبانيها مستقاة من البيئة ك( شجر المرخ ، وصريف النخل ) وبعضها من ( الطين ) وحتى وقت قريب : – آواخر العقد السابع ، واوائل الثامن من القرن الرابع عشر – كانت مناظر أسوار القش لا تخطئها العين . ولم يجري عليها تعديل ؛ حتى بعد شيوع ماسمي – آنذاك – ( المربعة ) وهو بناء وحدة سكنية من غرفة واحدة ، تقوم بواجبات = الضيوف – المطبخ – غرف النوم للعائلة ؛ ثم تطور إلى نظام ( غرفتين ) يفصل بينهما مايسمى ( سيب ) وهو يشبه المدخل في مساحته ووظيفته . وتشق الحارة ممرات ضيقة ، يسلكها المشاة – وفي بعضها لا تتسع لإثنين ، ومنها – على وجه التقريب = الممر المؤدي للسوق الصغير ، والذي ينتهي عند ( بقالة ) غازي أبو غزاوي – رحمه الله . ومنها الممر المؤدي للمدارس الذي ينفذ لمقر هيئة الأمر بالمعروف سابقا . ومنها الممر الذي يحاذي منازل ( آل الحجري ) والممر الذي اشرت إليه سابقا في ( ١٩ ) والغريب أن البناء على الأطراف – على ضيقه وحاجته ، وعوز طالبه – يخضع لإشتراطات ( الحكر ) = مقابل مالي سنوي لقاء السكن ، يدفع لورثة مالكها بموجب عقد مكتوب ومشهود . وللتاريخ وللأجيال نشهد – لا طامعين ولا مكرهين – أنه بإمكانك أن توقف سيارتك أمام باب بيتك . وتبقى تلك الشقوق المفتوحة عنوة في بطن الحارة وعلى خصرها : فصلا من ذاكرة تاريخية تعزز انتماؤك للوطن …
وعلى منوال حارة المغاربة تقاس باقي الحارات الموزعة على جغرافية خليص ، قبل أن تكون مصطلحا إداريا = محافظة خليص . إلا أن حارة المغاربة تصدرت العمل المؤسسي بحكم الجغرافيا والتاريخ ؛ وكان المأمول أن تصبح مدينة في ظل الحماس والميزانيات لولا توزيع الجهد على مراكز المحافظة ، وغياب اللمسة الإبداعية على الواجهات والمداخل …

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *