الدهشة

في حياةِ الإنسانِ وقفاتٌ تتجاوزُ الفهم، يُقاسُ فيها الوجودُ بالشعورِ لا بالزمن، يسطعُ ضوؤُها من الداخل، وتنطقُ كلماتُها بنبضٍ كأنّه قلب.

تلك الوقفات.. حالاتٌ يتجلّى فيها الإنسان بين الوعي والروح، يكتشف نفسه في فرحه، وفي حرفه، وفي انفراجه من ضيق، ثم يبلغ ذروة الإدراك حين يتأمّل أيوبَ وهو يبتسم بعد الألم.

دهشة…

مفردةٌ صغيرة، لكنّها تحملُ عالَمًا من المعاني المتباينة.. في الفرح، ليست مجرّد ابتسامةٍ تُزهر على الشفاه، بل ومضةُ نورٍ تُفاجئ القلبَ في لحظةٍ غافلة، فتُعيد إليه دهشتَه، كأنّه يرى العالمَ للمرّة الأولى.

دهشةُ الفرح لا تُصنع، بل تخرج من عمقٍ نقيّ، من لقاءٍ غير متوقَّع، أو كلمةٍ صادقة، أو حضورٍ يُشبه العطر… هي لحظةٌ يلتقي فيها الزمنُ بالروح، فينكسر الروتين، وتصفو العين، ويشعر المرءُ أنّ الحياة (رغم ثِقلها) ما زالت قادرةً على أن تُدهش.

وفي سالفِ الأيام، مواقفُ لا تُنسى، وذكرياتٌ لا يمكن طيُّها…أيّامٌ تنفردُ بحالاتِها الخاصّة، كأوّلِ يومٍ في المدرسة، أوّلِ يومٍ في الجامعة، ويومِ التخرّج، وأوّلِ يومِ عملٍ… وهكذا هي الحياةُ، سِرادقُ أيّامٍ تتوالى، والأهمّ أن تكونَ كلُّها خيرًا على خير.

وكما تتعاقب بداياتُ الأيام، ثَمّةَ بدايةٌ أخرى لا تُشبه سواها… هي بدايةُ الحرف… ثَمّةَ لحظةٌ لا تُنسى، حين تخرجُ الكلمةُ الأولى من أعماقِ القلب، لا تخطيطَ، لا تنقيحَ، لا أسلوبَ… فقط دهشة.

الدهشةُ الأولى للحرف، هي أوّلُ لقاءٍ بين الداخلِ والورق، بين ما لا يُقال، وما لم يجد طريقَه إلّا الآن، في شكلِ كلمةٍ… ربّما خجولة، ربّما مرتبكة، لكنها صادقةٌ تمامًا.

تلك اللحظة لا تتكرّر كثيرًا، فبعدها يأتي التمرُّس، ويأتي التفكير، وتأتي مراجعةُ الأسلوب، وتبدأ الكتابةُ تتعلّمُ كيف تقف، وكيف تلبس، وكيف تضيء في المجتمع، فتبدو واثقةً أمام الناس.

في البداية، لم تكن الحروفُ تريد أن تُعجبَ أحدًا، بل كانت تريد فقط أن تبوح، كأنّها كانت في شرنقةِ صدرِ صاحبِها، وكُتِبَ لها الآن أن تُولَد، ولو على استحياء.

دهشةُ الحرف، هي دهشتُك أنت، حين تقول (كيف كُتب هذا؟)، وتدرك أن يدَك كتبت، لكن قلبَك هو الذي أملى، وحين تكتب عن النعمةِ في هيئةِ كلمةٍ، توقن أنّ الحرفَ … رزقٌ ساقه اللهُ إليك.

اكتبْ حروفك، وصُغْ عباراتك… لا تطلبْ تصفيقًا، ولا تخفْ عِوَجًا ولا أَمْتًا، ولا تعرفِ الزيف…

ومجِّد الحقيقة، واجعلْها جبلًا وإن كانت تَلًّا… عندها تدركُ أنّ الكتابةَ ليست مهارةً، بل رحمة،

وأنّ الحرفَ ليس ملكك… بل أُهدي إليك.

وأشدُّ أنواعِ الدهشة، تلك التي تأتي في وقتٍ لم تختَرْه أنت… ليست دهشةُ الفرج في انقشاع الغمّة فحسب، بل في اللحظةِ التي تدرك فيها أنّ الله كان معك طوال الوقت، وأنّ تأخُّرَ الفرج لم يكن غيابًا، بل إعدادًا.

دهشةُ الفرج لا تُشبه أيَّ دهشةٍ أخرى، هي انكسارٌ يتحوّل إلى سجدة، وعجزٌ يتبدّدُ في لحظةِ يقين، تأتيك من حيثُ لا تنتظر، كأنّ الأبوابَ التي أُغلقتْ كانت تتهيّأ لتُفتحَ دفعةً واحدة.

في تلك اللحظة، لا تفرحُ فحسب، بل تخشع، تدرك أن النورَ لم يأتِ من الخارج، بل انبثقَ من قلبك، وأنّ الذي كنت تراه انسدادًا، كان في الحقيقة طريقًا يُعبَّد لك على مهل.

دهشةُ الفرج، أن تعلمَ بعد حينٍ أن كلَّ ما حدث كان لِحُسنك لا لضرك، فتبكي لا لأنك تألّمت، بل لأنك كنت تظنّ أنها لن تُفرج…ففرّجها اللهُ بأجملَ مما رجوت.

في الدهشةِ الأولى نفرح، وفي الثانية نكتب، وفي الثالثة نسجد، لم تكن دهشةُ أيوبَ يومَ بَرِئَ من قَرْحٍ مسَّه، دهشةَ جسدٍ استعاد عافيته، بل كانت دهشةَ روحٍ أدركت سرَّ البلاء بعد أن عبرت وهادَهُ صبرًا ويقينًا.

كان الألمُ معه طويلًا، حتى غدا صديقًا في وحدته، يؤنسه في ليالٍ لا يسمع فيها سوى أنينِ قلبه وتسبيحِ صبره… وحين أمرَ اللهُ بالرحمة، تفجّر الينبوعُ تحت قدميه، كما لو أنّ الأرضَ بكت معه ثم اغتسلت بدموعه.

اغتسل أيوبُ بالماء، ولم يغتسل من الوجع فقط، بل من كلّ ما علِق بالروح من تساؤلٍ وتأويلٍ وانتظار… لم يكن الشفاءُ مفاجأةً له، لكنه حين أحسَّ ببردِ الرحمةِ على جلده، ارتجف كمن وُلِدَ للتو، فالصبرُ جسرٌ يُفضي إلى الرضا.

دهشةُ أيوبَ لم تكن دهشةَ اللحظة، بل دهشةَ الفهمِ بعد الغموض، والطمأنينةِ بعد العاصفة.. لقد رأى بعينِ قلبه أن البلاءَ لم يكن عدوًّا، بل معلمًا يُنقّي القلبَ، وأن الشفاءَ ليس منّةً بعد صبر، بل آيةٌ لمن أحسنَ الظنَّ بربه وهو في القَرْح.

وبين فرحٍ وحرفٍ وفرجٍ، وبرأ، تكتملُ رحلةُ القلبِ نحو مَن صوَّرَهُ، وجعلَهُ مُضغَةً مُخَلَّقَة…وتلك حالةٌ تختصرُنا مع الدهشة.

في كلِّ دهشةٍ يكتشف الإنسانُ وجهًا جديدًا للحياة، وفي كلِّ ابتلاءٍ نافذةً على المعنى، وفي كلِّ حمدٍ طريقًا إلى السكون، فالدهشة ليست بدايةَ الحكاية، بل صورتها الأخيرة، حين يرى القلبُ بصرَه،

ويبتسمُ وهو يعرفُ الآن… لِمَ كان كلُّ هذا الجمال.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

5 تعليق على “الدهشة

BAKHSH, TALAL ABDULLAH H.

اللهم فرجا من عندك يدهش خلقك يا كريم يارب العالمينز

سميرة الحسناوي

مقال رائع يُجسد رحلة الإنسان مع الدهشة، تلك اللحظات التي يُكشف فيها الغطاء عن أسرار الحياة، ويتجلّى فيها الإنسان بكل ما يحمله أبدعت تم ارتقيت يااخي في استكشاف هذه اللحظات، من دهشة الفرح الأولى إلى دهشة الفرج بعد الصبر، مرورًا ببداية الحرف واكتشاف قدرة الكلمة. فالدهشة اذن هي بوابة لفهم الحياة بشكل أعمق وأوسع. أهنئك اخي الكريم على هذا المقال الرائع الذي يلامس القلب ويُثري الروح

محمد عبدالكافي

مقال رائع يا دكتور. اللهم إنا نسألك فرجا لعبادك المستضعفين في كل مكان يدهشهم وينسيهم كل تلك الآلام.

أنور يوسف ابو الجدايل

دائما تتحفنا بقلمك وفقك الله لما يحبه ويرضاه

حسين النايف

نعم انها الدهشة التي لا تعرف متى تكون ، فهي واقع يفرض أثناء اللحظة وقد تكون تارة سارّة وأخرى مزعجة
كذلك لا تعرف متى تتهيأ لها .
بوركت دكتورنا الفاضل ودام ابداعك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *