قراءة في الذاكرة
تتقاسم خليص قبيلة الشيوخ مع بطون قبائل حرب الأخرى. وهي وإن كانت تعيش حالة اندماج مع كل هذا النسيج القبلي؛ إلا أنها لا تذوب فيه. ثمّة اختلاف في التوجّه – يلحظه الراصد – في البنية الأخلاقية والمعرفية؛ حيث تُشكّل هذه القبيلة مفردةً مائزةً بين هذه التجمّعات، ترجع في بعضها إلى أصولها النسبية، وبعضها إلى إرثٍ ديني واجتماعي علق بالذاكرة التاريخية، وتمثّله الأوائل منهجًا وتطبيقًا، والتزم به الأحفاد قدوةً ونسقًا ثقافيًا.
ولن تجد قبولًا اجتماعيًا مثل الذي حظي به الشيوخ؛ كأنّما الناس يرون فيهم البقية الباقية من الهداة الصالحين!
وقد تعمّدت قول (قبيلة = مجازًا) وتجاهلت القول (قبائل) لسببين مهمّين:
أولاهما: الاشتراك في علوّ الأصول ورمزية النسب، وتبعاته من التديّن وحمولته من الأخلاق والتنوير.
وثانيهما: القبول الاجتماعي، وتبعاته من فضيلة التقدير وتراضي الخصوم.
وهذه المناقب تجتمع في الشيوخ – بكل أطيافهم – على امتداد المحافظة.
سأعبر بكم إلى بوابة الشيوخ؛ حيث تتجسّد أعظم الأمثلة لهذه المناقبية والمنابت المحمودة؛ ليس ممّا سمعته وقرأته وشاهدته؛ بل من البدايات الأولى، وأبجديّة الكتابة، ومفاتيح الكلام:
عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل سعد فقال النبي ﷺ: «هذا خالي، فليرني امرؤ خاله». رواه الترمذي. ولو كنتُ حاضرًا آنذاك لقلتها: (لأعمامي) حال انتهاء النزاع على الميراث!
تُوفي جدّي، وكان من عقبه كوكبة من الأبناء يتفاوتون في الأعمار والنفوذ – من بينهم عمي (عزيز) تلك العلامة في ذاكرة المكان والزمان. ورثوا أراضٍ زراعية فيها من الاختلاف الشيء الكثير، ومن ثمّ كان من البديهي أن يتنازعوا على المواقع. وظلّ النزاع من سنة (١٣٤٠هـ) تاريخ وفاة جدّي – على وجه التقريب – حتى (١٣٥٣هـ) تاريخ المصالحة.
كان المصلحون الذين سبقوا خالي (الشيخ حسن عبدالصمد الشيخ) من كبار السن، وممّن حظوا بشهرة في هذا المجال؛ لكن أن يكون المصلح الذي أنهى نزاعًا عجز هؤلاء عن حلّه لا يتجاوز عمره (عشرين سنة)؛ فذلك هو الأمر الذي يقف عنده رواة الأخبار ومدوّنو السير.
لقد كان الفتى الذي وُلِد في (١٣٣٤هـ) هو الفتى الذي انتُظر، أو انتظروا هم، أو انتظر الجميع مشيئة الله حتى جاء اليوم الموعود: الخامس عشر من ذي الحجة سنة (١٣٥٣هـ)، وأنجز الفتى ما عجز عنه السابقون وتهيب منه اللاحقون، ولم تأتلف القلوب إلا على مثله!
كانت بين (أعمامي) وخالي مصاهرة؛ مثلما كانت بين (الأجداد)؛ حيث تزوّج جدّي عبدالصمد (صالحه) ابنة جدّي عبدالشفيع؛ حتى وصلت لي (أنا وأخي عبدالعالي). وكان عمي (عزيز) المشار إليه أعلاه صديق خالي (الشيخ حسن). وممّا يُروى من تجلّيات هذه الصداقة: أنّه في لحظة زمنية فارقة من ليل يلفّ القرية – أمّ الجرم – النائمة على أكتاف الجبال؛ نهض من نومه قابضًا على بُشرى بغلام، فساق ناقته – في طريق اعتاد عليه وآلفته الضواري – حتى ناخت أمام بيت صديقه (حسن بن عبدالصمد) ليبلغه أنّه حلم له بمولود ذكر.
ثم عاد، وطلائع من تباشير الصباح تلحق به وتطوي ستائر الظلام بسرعة، ودعوات صاحبه ترتفع إلى سقف السماء: ترافقك السلامة في حلك وترحالك!
محمد علي الشيخ
مقالات سابقة للكاتب