مدينة الفضيلة الفاضحة

المدينة المنورة مدينة فاضلة لا كفاضلة أفلاطون، وتصير فاضحة على المتجاوز لخطوطها الحمراء، ففي خارطة المكان هي حرمٌ وروح ومقصد؛ لها خواصُّ لا تُقاس بالمساحة أو السكان، بل بمكانتها في الضمير الإسلامي وسموّها التاريخي والروحي. لذلك كانت المدينة دائماً قادرة على أن تفضح كل من يتلون فيها.. على أن تبدد خبث النفوس كما ينفي الكير الشوائب عن الحديد.

إن قدسية المدينة واقعٌ يعيش في تفاصيلها.. في عِمق الأزقة، في هدوءِ الروضة الشريفة، في أسقف المساجد، بل حتى في بساتينها ونعناعها، وعجوتها، وشريكها.. من يظن أن المدينة مكانٌ مسموح فيه لكل طائش أو محدثِ فتنة فقد خاب ظنه؛ فالمدينة صارمة في أحكامها الخفيّة، فهي “حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين” كما صح في الحديث الشريف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمدينة تدافع عن حرمة أرضها وحدودها في وجه كل من يحاول المساس بها.

الفضح هنا لا يعني هذر اللسان أو بصقاً على السمعة، بل هو إنذارٌ اجتماعي روحاني، تسقط معه الأقنعة وتنكشف النوايا، فلا يستطيع المُتلوّن أن يتحمل ثقل صموده بالباطل في المدينة، ومتى فشل الإنذار – أي فُضِح السلوك – تأتي إجراءات المجتمع المديني: لعنٌ سماوي، نفيٌ كالخبث، أو عزلُ محدثي الفتنة، أو تطبيق أحكامٍ تحفظ للمدينة أمنها وسلامة أهلها وزوارها.. ولا تسموا ذلك عنفاً، بل خط دفاع يحفظ للناس أمن سكناها وكرامتهم.

وإن تأملنا الحديث الشريف في صحيح البخاري «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع طيبها» نجد صورة بلاغية تعبّر عن حقيقة المكان الذي حوى خيراً كبيراً لن يقبل ببقاء شرٍ فيه دون ردّ فعلٍ يردعه. فصرامة المدينة مصدرها درع رباني، وملائكة على أنقابها، ووعيُ أهلها وحرصهم على تبيان الحق.

ومن أجل ذلك تتكاتف قواها (أميرها، رجال أمنها، علماؤها، مجتمعاتها المحلية، وزوارها) للحفاظ على قدسيتها.

فالمدينة دار صدق، لا يستقر فيها منافق طويلًا، ولا يثبت فيها ذو قلبٍ مريض، ليست قاسية على المتأدب فيها؛ بل هي ضارية على مفتعلي الفتنة والخبث.. تُعطي الفرصة للتراجع، وللتوبة، وللصلح، أما من يُصرّ على الإفساد والتلوّن، فالمدينة تجازيه بفضح يقضي عليه ويسقطه، ونفي يبعده عن مشاربها ومنابتها، من أحسن إليها أكرمته؛ ومن اعتدى فيها فضحته.

فالفاضحة من الأسماء الأثرية القديمة المرتبطة بوصف حال المدينة مع المنافقين، ولكن ليست اسماً شرعياً ثابتاً كغيره من أسمائها المعروفة.

فاللهم ارزقنا الأدب فيها، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.

أحمد القاري

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “مدينة الفضيلة الفاضحة

بسام عدي

ما أعمق هذا النص ما أطهَر روحه! كتبْتَ عن المدينة المنوّرة كما تُكتب الأسطورة حين تتجسّد صدقًا وضياء، جعلتَ من الحروف محرابًا ومن المعاني سجدة، ومن وصفك درعًا يحرس قدسية المكان. المدينة كما وصفتها: دارُ صدقٍ لا يثبت فيها الزيف، ولا يقيم فيها المنافق طويلًا، بورك قلمك الذي عَرَفَ كيف يكتب عن الطهر، وكيف يجعل للكلمة نَفَسًا من نور المدينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *