الابن البعيد وهو في الغرفة المجاورة

في كثير من البيوت، يجلس الجميع تحت سقف واحد، لكن المسافة بين القلوب أوسع من أي جدر. الأب في مكتبه، والأبن على أريكته، والأم تنشغل بين المهام اليومية، وكل منهم غارق في شاشة صغيرة تبتلع الحضور وتزرع الغياب. أصوات الأجهزة أعلى من أصواتهم، ونظراتهم موجهة نحو العالم الافتراضي لا نحو بعضهم البعض. كأن الوجود الجسدي لم يعد كافياً ليشعروا بالاحتواء، وكأن الدفء الإنساني فقد قدرته على العبور من غرفة إلى أخرى.

هذا النوع من الغربة هادئ، لكنه قاتل، الأطفال اليوم ينشأون في غرفٍ مغلقة، يتواصلون مع أصدقاء افتراضيين أكثر من والديهم، والآباء مشغولون بتحقيق الإنجازات أو متابعة الأعمال، معتقدين أن توفر كل شيء مادي يكفي لتعويض ما يفقدونه من حضور. لكن القرب لا يُقاس بالمساحة ولا بالوقت الذي نقضيه تحت سقف واحد، بل بالاستماع، بالمشاركة، بالاهتمام الصادق. حين يغيب هذا كله، حتى أقرب الناس إلينا يشعرون كما لو كانوا غرباء، والبيت يصبح مكاناً خاوٍ رغم كل أثاثه.

تُظهر الدراسات النفسية أن العزلة العاطفية داخل الأسرة تُضعف الإحساس بالانتماء، وتجعل الأبناء أكثر عرضة للبحث عن مصادر تقدير خارج البيت، فحين لا يجد الطفل من يصغي إليه، يبدأ عقله في بناء جدارٍ دفاعيٍ صامت، يحميه من خيبة التعلق. وفي المقابل، يعيش الآباء حالة إنكار هادئة، يظنون فيها أن وجودهم المادي كافٍ، بينما ما يحتاجه الأبناء حقاً هو الانتباه الوجداني لا الحضور الجسدي.

نتذكر البيوت القديمة حيث يجتمع الجميع مساءً، حيث كانت الأصوات تتقاطع، والضحكات ترتفع، والقصص تُروى، والاهتمام الحقيقي لا يحتاج جهازاً، اليوم، كل شيء أصبح مشروطاً، بالزمن الرقمي، وصرنا نختصر العلاقات البشرية، إلى رسائل سريعة وصور مؤقته، لم يعد الحنان يُشعر به، بل يُرصد، لم يعد الحوار يُعاش بل يُسجل، ولم يعد الاهتمام تلقائياً، بل خطة مجدولة في التقويم، إنها الآلية الجديدة للعاطفة في عصر التقنية، مشاعرنا سريعة، مؤقته، ومنفصلة عن التفاعل الواقعي.

النتيجة أن القلوب تتعب في صمت، ونبدأ جميعاً في الاختباء خلف الابتسامات والصور المصطنعة، نتظاهر بأن كل شيء على ما يرام، بينما ندرك في أعماقنا أننا فقدنا القدرة على تواصل صادق. الابن يشعر بأنه لا يهم، الأب يشعر بأنه بعيد عن ولده، والأم تشعر بأنها لم تعد تستطيع جمعهم كما كانت تفعل قبل عشر سنوات. كلٌ منهم يعيش في غرفة افتراضية، والغرف الجسدية لم تعد مهمة. ويؤكد علماء النفس أن الانفصال الهادئ أخطر من الخلافات الصاخبة، لأن الألم الصامت لا يجد طريقة إلى الإصلاح، فيتحول مع الوقت إلى عادة شعورية يصعب كسرها.

أن هذا الواقع يترك أثراً طويلاً، الأطفال الذين لم يشعروا بالاستماع الحقيقي، يكبرون وهم يحملون شعوراً بعدن الاكتمال، يبحثون عن من يسمعهم خارج البيت، وربما يجدونه في الغرباء بينما أقرب الناس إلى قلبهم لا يعرفون شيئاً عن معاناتهم اليومية. والآباء الذين لم يعلموا أبنائهم كيف يكون الحضور، يكتشفون بعد سنوات أن كلماتهم لم تُسمع، وأن قلوبهم لم تُفهم، وأن كل الانشغال لم يُعوض الفراغ العاطفي. الحرمان العاطفي هنا لا يُرى لكنه يورث، ينتقل يصمتٍ من جيل لآخر كإرث غير معلن.

ما نحتاجه اليوم ليس بناء المزيد من الغرف، بل كسر الجدران الخفية. يحتاج الأب أن يرفع رأسه ويستمع، يحتاج الابن أن يتحدث دون خوفٍ من رفضٍ أو تجاهل، تحتاج الأم أن تتشارك في لحظة صمتٍ أو ضحك دون أن يكون هنا جدول أعمال أو شاشة متصلة بالعالم الخارجي. هذه المساحات الصغيرة من التواصل هي التي تعيد البيت إلى ما كان يجب أن يكون، مأوى للقلوب لا مجرد سقف للأجساد. الحضور الحقيقي ليس ان تكون متاحاً دائماً بل أن تكون حاضراً بصدق حين تكون موجوداً.

الزمن الذي نضيع فيه على شاشاتنا، هو الوقت الذي يُصنع فيه الحنان الحقيقي. كل ابتسامة لا تُسمع، كل كلمة لا تُستجاب، كل حضنٍ مؤجل، يُحول البيت إلى مكان بارد، ويتركنا نشتاق إلى ما كنا نحصل عليه بلا جهد. حضور الآخر معنا. لذلك ليس الهم أن تعيش المهم أن نعيش معاً في نفس المكان، بل أم نحيا معاً بقلوبنا.

كل ما نحتاجه ليس أدوات وأجهزة، بل قلبٌ صادق يستمع، وعيٌن ترى ما وراء الكلمات، ويدٌ تم للحضن حين يحتاجه الآخر. الحضور الحقيقي هو يصنع الدفء، وما يجعل من البيت مأوى للروح لا مجرد مكان للجسد. فربما يكفي لحظة واحدة من الانتباه الصادق لتعيد للقلوب ما فقدته السنوات من دفء، وتحول الغرفة المجاورة إلى مساحات حقيقية للحياة المشتركة. فهل نستطيع أن نكسر الجدران الخفية بيننا وبين أحبائنا، قبل أن يصبح الغياب النفسي عادة لا تعالج، وهل نستعيد القدرة على التواصل الحقيقي قبل أن يفوتنا العمر ونحن نعيش جنب بعضنا دون أن نشعر.
 
سامي آل مرزوق

 @samialmarzq

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “الابن البعيد وهو في الغرفة المجاورة

افراح احمد

موضوع في غايه الاهميه ،،لغه الحوار ماعادت موجوده بين الأهل لذلك يلجأ الطفل لأصدقاء افتراضين
الامر خطير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *