ظلّ المطر

قطراتُ مطرٍ تنهمرُ في ليلٍ مظلم، كأنها تُوقظُ الأرضَ من سكونها الطويل، والركضُ تحت المطر مغامرةٌ تختمرُ تحت سمائه الغائمة، حيث تختلطُ البرودةُ بالأُنس، ويصبحُ البللُ عبورًا إلى صفاءٍ داخليٍّ لا يُرى، كأنَّ الروحَ تغتسلُ من ضجيجِ الأيام… لتعودَ أكثر نقاءً.

الليلُ والشتاءُ وخيوطُ الشمسِ الدافئة… ثلاثيةُ الإنسانِ في علاقاته حيث سكونٌ، وبردٌ، ثم دفءٌ يعودُ من بعيد..

الشتاءُ فصلٌ له حضورٌ مختلفٌ في حياة الناس، لا يشبهُ غيرَه من الفصول، فهو الأقربُ إلى أرواحهم بما يحمله من سكينةٍ ومشاعرَ دافئةٍ رغم برودته.

في الشتاءِ، تقتربُ القلوبُ كما تقتربُ الأجسادُ من المدفأة، وتعودُ البساطةُ إلى تفاصيل الحياة اليومية، فجلسةُ الكأس الساخنة، وصوتُ المطر، ورائحةُ الأرضِ بعد البلل، كلُّها مشاهدُ تُعيدُ الإنسانَ إلى فطرته حيث يكتفي بالقليلِ ليشعرَ بالكثير.

يتقلّبُ الشتاءُ كقلبٍ يعشقُ، لا يستقرُّ على حال، غيومُه ورعودُه وأمطاره لوحةٌ من جمالٍ لا تكتملُ إلا بتناقضاتها.

فالتقلّبُ فيه ليس اضطرابًا، بل لحنٌ خفيٌّ يبعثُ النشاطَ في النفوس، ويكسرُ رتابةَ الأيام، ومقابلَ ضجيجِ الصيفِ ولهاثه، يهبُّ الشتاءُ كضيفٍ حنونٍ، يوقظُ فينا التأمّل، ويجمعُ الناسَ حول دفءٍ واحدٍ وذكرياتٍ لا تُنسى.

في الشتاء يقودُنا التأملٍ إلى مكان أشدَّ برودة… إلى علاقاتٍ كانت يومًا دفئًا ثم تجمّدت، فالحديثُ هنا لا يدورُ عن رجلٍ وامرأة، بل عن كلّ ما يربطُ البشرَ برابط خفيٍّ اسمه الودّ، بين ابنٍ وأبيه، وابنةٍ وأمّها، وصديقٍ وصديقه، وبين ابنةٍ وأبيها، وابنٍ وأمّه، وحتى سابعِ جارٍ يطرقُ البابَ بسلام.. ففي قلبِ كلِّ علاقةٍ كانت يومًا ضوءًا، صار ظلًّا باهتًا في آخر النهار.

لماذا يتقدّمُ الجمودُ كلَّ يومٍ خطوة، ويتراجعُ الصفاءُ حتى يختنق؟، لماذا يُصبحُ التعبُ مقياسًا للحبّ، والصمتُ جوابًا على الوفاء، والتجاهلُ وسيلةً لحفظ الكبرياء؟، لماذا حين نُحبّ، نشعرُ أن بعضَ من نحبّهم يتلذّذون بتعبنا؟، أسئلة والسؤال مفتاح المعرفة..

كأنّهم يجدون في إرهاقنا متعةً خفيّة، وفي صبرنا مساحةً لتجريبِ حدودهم معنا.. نمنحهم وقتَنا، فيقصرونه.. نفتحُ لهم قلوبَنا، فيغلقون الحديثَ قبل أن يدفأ.. نجلسُ إليهم بشوق، فينهضون وكأنهم أنهَوا واجبًا لا لقاءً..!

هل الحبّ يُرهقُ حين لا يُبادَل؟، أم أن المشكلةَ فينا نحن، لأننا أحببنا بوعيٍ كامل، فيما هم أحبّوا بغياب الشعور؟، نقيسُ بالنبض، وهم يقيسون بالظروف…!

نحضرُ بالعطاء، وهم يحضرون بالاعتياد، أحيانًا يكونُ جمودُهم صرخةً صامتةً لا نفهمها، وأحيانًا يكونُ تكبّرُهم خوفًا من أن يُظهِروا ضعفهم أمامَ من يفهمهم أكثرَ من أنفسهم… وهم لا يشعرون.

الاُنسَ الحقيقي لا يحتاجُ إلى تبرير، فهو حين يصدقُ، يلينُ، ويقتربُ، ويُشبهُ الطمأنينةَ أكثرَ من اللهفة، ولذا… حين لا يُبادَلُ الودّ، لا تنكسر.

فالنقاءُ لا يضيعُ، وإن لم يجد صدرًا يحتويه، وجد سماءً تشهدُ له، فكلُّ حبٍّ صادق، وإن لم يُقابَل بحبٍّ مماثل، يتركُ في الروحِ أثرًا يُشبهُ السلام.

لقد تغيّر ميزانُ العلاقات، وباتت تُدارُ بعقلٍ مفرطٍ في الحذر، لا بقلبٍ يعرفُ العذر.. الكلُّ يخشى أن يُخدَع، فيخدَع… الكلُّ يتوقُ إلى الدفء، فيتجمّد كي لا يُظهر ضعفَه، فتضيعُ المعاني بين شقوقِ الكبرياء، وتُوأَدُ النوايا الطيّبةُ على عتبةِ سوء الظنّ.

في زمنٍ كهذا، لم تعد العلاقاتُ تُقاسُ بالقرب، بل بمدى ما تبقّى من نقاءٍ بعد كلِّ خذلان.. صار الصفاءُ عبئًا على من لا يحتملُ الضوء، والعطاءُ يُفسَّرُ على أنه استسلام.. حتى غدت المودّةُ ساحةَ معركةٍ الكلُّ فيها خاسر، ولا مكسبَ يُذكَر.

ومع ذلك، كان أحدُهما لا يظنّ يومًا أنه في معركة، فهو لم يرَ علاقتَه أرضًا تُقاتَلُ عليها، بل فضاءً من آفاقٍ رحبةٍ يسبحُ بين نجومِها وأقمارِ كواكبِها.

كان يراها علاقةً ساميةً بسموّ أركانِها، علاقةً من نورٍ لا من طين، ومن نُبلٍ لا من غلبة.. غيرَ أنَّ الواقعَ، في قسوته، جرَّها من فضاءِ الحلم إلى أرضِ الاختبار، حيث لا تُقاسُ النوايا بالنقاء، بل بالبقاء.

وفي نهايةِ المعركة، كما كانوا يظنّون، لا يبقى إلا الأطهرُ قلبًا، يقفُ على أنقاضِ الودِّ المنكسر، يُلملمُ بقايا المعنى، ويهمسُ في نفسه (ليس الوجعُ في الفقد، بل في التغيّر، في أن ترى من أحببتَهم ينسحبون من دفءِ أرواحِهم، واحدًا تلو الآخر، نحو بردٍ لا يُدفّئه شيء).

وليبقَ ظلُّ المطر شاهدًا على أن الدفءَ حالةٌ لا تنتهي، بل تغيب، وقد تهاجرُ حين يبردُ المكان، ثم تعودُ يومًا في هيئةِ حنين، ترتّبُ على القلبِ برفق، وهي صورةٌ من دروسِ الحياةِ مع البشر، تُعلِّمُنا أنّه وإن غابتِ الشمس، فما زال فينا ضوءٌ من أملٍ يبقى وإن خفت، وحتى وإن أزِفَتْ سُحُبُ الأمطارِ تتراكمُ من جديد، فما يزرعْهُ القلبُ يعودُ إليه يومًا، فلا حصادَ إلّا لما بذرتَ وسقيتَ.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *