خُليص في التاريخ المنسي (24)

قراءة في الذاكرة

كتبت عن الحارة التي سكنتُ بها، والمغاربة الذين عشتُ بينهم، وصرتُ منهم بعد أكثر من أربعين عامًا، متجاوزًا المدة التي قدّرها الأولون — أربعون يومًا! وانتقلتُ يمنةً ويسرةً في فضاء هذا المكان وأهله، أتقصّى بعض الأخبار البعيدة وما دنا.
أكتفي بعناوين النصوص للتذكير لا للتفصيل؛ فذلك شأن لا تسعه هذه العُجالة نصًا وحَيّزًا.
ربما رضي عنه البعض، وجفاه البعض، وتوسّط الآخرون بين هذا وذاك؛ إلا أنه في كل الحالات أخلص منشأه، ووصل المتلقي.
وللناس فيما يعشقون مذاهب…

اليوم سأكتب عن (شيخي)، ذلك الفاصل والمفصل في الحالة الخليصية قبل وبعد. وإنك لتدرك بوضوح الفروقات بين الحالتين بالنزر اليسير من الواقعية والمصداقية، ومن غير أن تتجشّم عناء البحث وقياس الاختلاف.

لو سألتني: من هو الشيخ حسن عبدالصمد؟ لأجبتك خارج توقّعك.
هو واحد من الناس: مكانه الذي لم يغيّره — على يمين مدخل مجلسه، العمامة المسدولة على رأسه في غير عناية، العقال المشدود على رأسه بدون تكلّف، مشاركته العمال في الزراعة وجني الثمار، إشرافه المباشر على وليمة ضيوفه، مجالسته الطبقة الكادحة من المزارعين وأصحاب الصنائع الصغيرة، وتبسّطه معهم في الحديث.

لا يختلف في أداء شعائر العبادة عن البسطاء من الناس، ولم يتخذ مقامًا غير ما ألف الناس عليه. لا يثنيه الوقت، ولا تعيقه الظروف، ولا تحجبه المشاغل عن مقابلة طلاب الحاجة. يحضر مع القوم كل مناسباتهم؛ تجده في الأفراح أول الحاضرين والمباركين، وفي الأحزان أول المواسين، كأنما هو أحد أفراد الأسرة.

هذا هو الشيخ حسن عبدالصمد: واحد من الناس، لا يختلف عن مسار أهل قريته، وشؤونه هي مقتضيات عصره. ربُّ أسرة ومزارع، ويرتبط مع الآخرين بعلاقات اجتماعية وثيقة، تشبه حياته المعاشة إن لم تتطابق مع حياة مجتمعه.

إذن، ما الذي جعل هذا الواحد من الناس كلَّ الناس؟
ينادونه (حسن) فيفهم السامع بداهةً بأن المنادى حسن الشيخ، وكأنه الوحيد الذي يحمل هذا الاسم.
وينادونه (الشيخ) فيفهم السامع بداهةً بأن المنادى الشيخ حسن، وكأنه الوحيد الذي يحمل هذا اللقب!

ما الذي جعله في تلك المكانة الفارهة والمقام المرموق؟
ما الذي رسّخه في الشعور والذاكرة، حتى يتناقل الناس أثره وتأثيره كأنما يتحدثون عن رجلٍ غير الذي عرفوه واحدًا منهم؟

لك أن تكتب ما شئت من الصحائف والكتب، ولك أن تروي حتى يملّ سامعك، وستبقى عاجزًا عن الإلمام بأبعاد شخصية هذا الرجل، وقياس حدود مكانته في الروايات الشفهية وفي التاريخ المكتوب.

 

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *