ثالثُ ثلاثة

معادلةُ الاكتمال الإنساني

منذ البدايات، كانت الحروف والمجاهيل (سين وصاد وأخواتها) أولى نوافذنا لفهم هذا الكون، لم تكن رموزًا على ورق، بل مفاتيح تُفتح بها أبواب المعارف، وتُبنى بها الحضارات، وتُستولد منها التقنيات.

علّمتنا تلك المتغيرات كيف نفكّر، وكيف تتحول الفكرة إلى نموذج، والنموذج إلى واقع، ومع الزمن تطورت المعادلات إلى خوارزميات، وانتقلنا من ريشة القلم إلى لمعان الشاشة، حتى بلغنا عصر الذكاء الاصطناعي.

ومن بين الأشكال الهندسية التي رافقت وعينا، يظل المثلث أوضحها دلالة، ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا، يستقيم كل شيء فيه حين يكتمل ثلاثيًا، ويختلّ بغياب أحد عناصره.

وكذلك الإنسان لا يعتدل ميزان حياته، ولا يكتمل معناها، إلا حين تُضبط العلاقة بين ثلاثة أضلاع العلم، الوقت فالحياة التي تُهذِّبها ذائقة الورد.

العلم هو الضلع الأول، يمنح الفكرة مسارها، وينير العقل، ويكشف أسرار الواقع، وهو الذي يمكّن الإنسان من فهم طبيعة المال، وكيف يكتسبه ببركة وعدل، ويهديه إلى إدارة التجارة وسبل النجاح فيها، وحيثما حضر العلم، حضر الرخاء، وحيثما غاب، ضاعت الفرص وتعثر الطريق.

وأعني بالعلم ذلك النور الذي لا يستجيب لكل أحد، بل يختار أهله، يستقرّ في القلوب التي تعرف قدره، وتؤمن برسالته، وتدرك أنه الجسر الذي يصل الأزمنة، ويعبر بالإنسان من جهلٍ إلى وعي، ومن فوضى إلى نظام، ومن سطحيات الحياة إلى أعماقها.

ومهما تبدّلت الأدوات بين كتابٍ ورقي أو شاشة رقمية يبقى العلم هو الثابت الذي يحفظ العقل من الضياع، ويوجه القلب نحو المعرفة، ليس بين عطايا الإنسان هبةٌ أجلّ منه، فهو الضوء الذي يبدّد العتمة، وهو إرث الأنبياء، وأثبت ما يملكه الإنسان في مواجهة المتغيرات والتحديات.

وهذا الثباتُ نفسُه هو ما يجعلك لا تُصغي إلى أي صوتٍ يُهوِّن من قيمة العلم، كأنه رفاهيةٌ يمكن الاستغناء عنها، أو خيارٌ يُلتجأ إليه عند الحاجة، فالتاريخ كلَّه لم يشهد حضارةً قامت بغير عقلٍ راشد، ولا نهضةً ارتكزت على المال أو الأشخاص وحدهم، فالعلم هو القيمة التي لا يطويها الزمن، والركنُ الذي لا تقوم حضارةٌ بدونه.

أيُّ إبداعٍ لا يولد إلا في بيئةٍ حاضنةٍ للمعرفة، وهو السماء التي تُظلّل وتمنح الامتداد، وهو الذي يحمل الماء إلى الأرض فيرويها، وينبت فيها دهنًا وصبغًا للآكلين، وكما يحيي الماء الأرض بعد موتها، ينعش العلم العقول، ويخصب المجتمعات، ويهب الحياة طعمًا وقيمةً وجمالًا.

وأعجبُ لمن ابتعد عنه، كيف يحسن صياغة سؤال، أو يفهم علل الجواب، أو يتعامل مع مجاهيل الحياة؟، إن من حُرم زادَ العلم، حُرم أدوات الفهم، فالعلم طريق التفكير والإدراك، وهو الذي يمنح القدرة على تذوق الحياة ومتعتها الجمالية.

أما الضلع الثاني فهو الوقت…ذلك المورد الذي لا يُرى ولا يُمسّ، لكنه يترك أثره في كل شيء، هو الشيء الوحيد الذي يملكه الناس بالتساوي، ومع ذلك فهو أغلاهم جميعًا، لأن ما مضى منه لا يعود.

الوقت هو الإطار الذي تتحرك فيه أعمارنا، لحظات تُصبح أيامًا، وأيامٌ تصير سنوات، وإذا بالسنوات تصوغ مصائرنا كما يصوغ النهر مجراه، كل ما نملكه حقًا هو وقتنا، فمن أحسن استثماره ارتقى، ومن أهدره بقي حيث هو أو تراجع. فالإنجاز لا يولد من الذكاء وحده، بل من وعي باللحظة وإدراكٍ لقيمتها.

وبقاء الضلعين الأول والثاني دون الثالث لا يصنع إنسانًا متزنًا… لهذا يأتي الضلع الثالث الحياة برائحة الورد، ليست رفاهية ولا مظهرًا شاعريًا، بل رمزٌ لجوهرٍ إنسانيٍّ يحفظ للروح حضورها، هي الذائقة التي تُلطّف الطريق، وتمنح للجهد معنًى، وللنضال اتساقًا، وللأيام ملمسًا يشبه الطمأنينة، هي المساحة الهادئة بين ضجيج التفكير وضغط الإنجاز.

وبين علمٍ يرفع، ووقتٍ يربّي، وروحٍ تتشرّب رائحة الورد… يتشكل مثلث الوعي، وبعد هذا السفر بين المعادلات وساعات الزمن وخطوط التجربة… يتردد سؤالٌ لا يهدأ (كيف نحيا حياة مكتملة المعنى؟)، ولعل من بين الأجوبة: ليس في عنصر واحد، بل في توازن الثلاثة التي تشكل هيكل الوجود الإنساني وهو العلم… الوقت… فالحياة.

وبعد…
كن على يقين بأن العلم يمنح الإنسان بصيرته، والوقت يعلّمه أن الموارد تُستنفَد وأن الحكمة أثمن من السرعة، والحياة حين تكون برائحة الورد تحفظ له هويته وعمقه وسموه.

وعند تعادل هذه الأضلاع، لا يكتفي الإنسان بأن يعيش… بل يتقن عمارة الأرض، ويصنع أثرًا يبقى، ويحيي ما خُلق لأجله، بأن يكون خليفةً واعيًا، يضع كل شيء في موضعه، ويصوغ رسالته كما يُصاغ الحضور الهادئ… عميقًا، ثابتًا، وممتدًا.

فالغاية ليست السعادة، بل الحياة الحقيقية، وهو ثالث ثلاثة ولن يستقيم عوده إلا بعِلمٍ يُهذّب العقل، ووقتٍ يُنضج التجربة، وعندئذ يزهر وردٌ يُرقّق القلب.

لا يُرى أثر هذا المثلث في صخب الخارج فحسب، بل يُحسّ طمأنينةً في الداخل، كعبيرٍ خفيفٍ لا يُطلب، يَهطل وحده حين يُوضع كل شيء في موضعه، وحينها… يصبح الإنسان هو المعادلة… وهو معناها.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “ثالثُ ثلاثة

حسين النايف

ولعل الحياة تستقيم بهذا الثالوث ولكن لابد أن تكون عرجاء بلحظة من اللحظات إلى أن تتوازن القوى وهذا ما نتعلمه لرفد ذلك التوازن .
بوركت وسلمت ولك الاحترام والتقدير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *