في كل موسم بارد، حين يثقل الهواء برطوبته وتزداد ساعات الليل، يطرق باب الجسد ضيفٌ مألوف.. ” الإنفلونزا ” .
زكامٌ يعيق التنفس، احتقانٌ يضغط على الرأس، سخونةٌ تلهب الجسم، وسعالٌ يعلو ويرعد.
يرى الناس هذه الأعراض عِلّةً تكدّر صفو سعادتهم، لكنها في حقيقتها — عند التأمل الطبي — ليست إلا رحلة مناعية مدهشة يعمل فيها الجسد بحكمة فائقة لإعادة تنظيف داخله واستعادة توازنه.
الحمّى نار تطهِّر ، وليست خللاً، إنما تكتيك دفاعي يستخدمه الجسم لوقف تكاثر الفيروسات، فمعظمها يعجز عن الانتشار عندما ترتفع حرارة الجسم.. إنها أشبه بتعقيم داخلي؛ حرارة مرهقة ظاهراً، لكنها رحمة في جوهرها.
الأنف حين يزدحم بالسوائل المخاطية، والجيوب الأنفية حين تمتلئ بالضغط، فذلك ليس “تلوثاً محتبساً” كما يعتقد البعض، بل مزيج دقيق من فيروسات ميتة أو ضعيفة، وخلايا مناعية أنهت مهمتها، وسوائل التهابية يجمعها الجسم في مكان واحد قبل إخراجها.
إنه تنظيف مناعي متكامل، ولذلك ينبغي عدم حبس هذه الإفرازات، بل إخراجها، لأن الجسم أعدّها للطرد لا للتخزين.
السعال والعطاس هما اليدان الخفيتان للجهاز التنفسي.. فالسعال يحرّك الإفرازات من عمق الشعب الهوائية إلى أعلى، والعطاس يطرد ما علق في الأنف من ملوثات وجراثيم.. إنهما — رغم الإزعاج — أدوات طرد طبيعية لا يُكتمل الشفاء إلا بهما.
لكن.. لماذا يشتد المرض في هذا الموسم؟
البرودة تُضعف حركة الشعيرات الأنفية المسؤولة عن طرد الغبار والفيروسات، وتمنح الفيروسات قدرة أطول على البقاء على الأسطح وفي الهواء، وهكذا يدخل الجسم في دورة مناعية موسمية يعيد فيها تنظيم دفاعاته، وكأنه يقوم بصيانة شاملة لخطوط الحماية.
وتلك الأعراض المرَضية ليست من الفيروس بل من المناعة، وهذا يؤكده الطب أن أغلب ما يشعر به المريض من حرارة، وألم حلق، واحتقان، وخمول؛ ليس سببه الفيروس نفسه، بل ردّة الفعل المناعية، فالجسم حين يمرض، فهو لا ينهار بل يقاتل.
وكل هذه الأعراض ليست إعلان هزيمة، بل إشارة إلى أن الجيش الداخلي يؤدي عمله كما ينبغي.
فما هو دور المريض وقتئذ؟
يجب على من يصاب بالزكام والاحتقان في هذا الموسم أن يتعاون مع جسمه ويساعده لا أن يرهقه، وذلك من خلال شرب السوائل لترقيق المخاط وتسهيل إخراجه، والحصول على الراحة والنوم الكافي، واستنشاق البخار لترطيب الجيوب الأنفية، والغرغرة والمسكنات عند الحاجة، جعل الإفرازات تخرج وعدم حبسها، وتجنّب المضادات الحيوية لأنها لا تعالج الفيروسات.. فالغاية ليست إيقاف الأعراض، بل مساندة الجسم في إتمام عملية التنظيف التي بدأها.
الإنفلونزا، وإن بدت ثقيلة على الجسم، فهي شكل من أشكال الرحمة الإلهية.. إنها تنبيه لطيف بأن الوقت قد حان لتجميع ما تراكم من شوائب، ثم لفظها خارج الجسد بإحكام مناعي دقيق، وبعد هذه الرحلة — التي تبدو مرضاً — يعود الإنسان أخفّ، أنقى، وأقوى.
ولا شك أن الحمى مكروهة وما يتبعها من أعراض تضعضع الجسم، ولذا يقول المتنبي :
وزائرتي كأنَّ بها حياءً
فليس تزور إِلا في الظلامِ
********
بذلتُ لها المطارفَ والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
********
يضيقُ الجِلدُ عن نفسي وعنها
فتوسِعُه بأنواعِ السِقامِ
********
إِذا ما فارَقَتني غَسَّلتني
كأنّا عاكفانِ على حرامِ
********
كأنَّ الصبح يطردها فتجري
مدامعُها بأربعةٍ سجامِ
فالخلاصة أنْ المرض ليس دائماً خصماً مهاجماً وعدواً متربصاً، أحياناً يكون طريقة الجسم في أن يبدأ من جديد، ويحيي مواته، ويرمم ضعفه، لذلك كان بعض السلف الصالح يقولون : “يا مرحباً بالحمى أجر وعافية” ، وهذا الإعجاز الإلهي مدعاة للتفكر في عظمة الله، قال تعالى (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
أحمد القاري
مقالات سابقة للكاتب