يصادفنا هذه الأيام الاحتفال باليوم العالمي للتسامح… وسواء اختلفنا أم اتفقنا مع هذا التخصيص فإننا حتما نتفق مع الضرورة الملحة لفعل التسامح .. فالتسامح صفة شمولية تنغمس فيها معانٍ كثيرة مثل الاحترام والعطف والتشارك والحب والسلام والخير … والتسامح غاية نهائية لأي منهج فكري سليم وفهم مركز ومكثف لأي عقيدة سليمة.
وبذات الوقت يعتبر التسامح قيمة ينبذها كل متعصب سطحي لقومية أو ديانة أو عرق ما…لماذا؟ لأن للتسامح مبادئ فطرية حقيقية تتعارض مع ما يرنو إليه ذلك المتعصب من (تميز وهمي) لم يكتسبه إلا لسبب (وجودي) نتيجة كونه منتمياً لدين أو وريثاً لمال أو مواطناً لبلد ما أو عضواً بقبيلة محددة أو شريكاً بمؤسسة سائدة أو حتى صاحب منصب قيادي في سوق أسماك!
وللتسامح مستويات …
– التسامح يبتدئ على المستوى الشخصي وهو ضروري بين نوازع الشر ومكامن الخير في النفس البشرية… وهو بهذا فن لا يتقنه إلا كل صاحب فضيلة وفضل.
– مثلما يظهر التسامح على مستوى الأسرة يكونه الفيصل بين سعادة وترابط وتراحم تجده واضحاً بسلوك بعض العوائل وما بين عنف أسري وتفكك ولا انتماء لدى بعضهم الآخر..
– التسامح على مستوى العمل ولا أجد ما يعبر عنه أفضل من مفردات وصف الفرق بين المدير والقائد.. نعم القائد هو من يكون ديدنه التسامح ويخرجه من مجرد منفذ لقوانين تنتج عملاً تقليدياً إلى مطور لمنظومة عمل يسودها الحب والابداع والانتاج وربما الابتكار.
– التسامح على مستوى الأمة بمثل ما قام به قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من شواهد كثيرة وأبرزها تسامحه مع أهل مكة عامة وقريش خاصة في صلح الحديبية أولاً ، وأثناء فتح مكة ثانياً .. وهنا أشير إلى أثر ذلك على وحدة المسلمين وتوحدهم من جهة ودخول أضعاف ما دخل الاسلام بالسيف والحرب نتيجة هذا الخلق العظيم من جهة أخرى!
قد تتساءل عزيزي القارئ .. إلى ما أرمي بعد هذا التمهيد الطويل؟
أقول… إن التسامح بين العرقيات في هذا العالم كفيل بتحول عالم الدمار والدم والإعصار الذي نعيش إلى عالم الإنتاج والإعمار الذي يريده منا الخالق عز وجل… التسامح دستور حياة متكامل يتلخص بتقبل الاختلاف واندماجنا مع الآخر لبذر التنوع والتكامل المنشودين .. التسامح سمة مشتركة للأديان ومنتهى لشتى المذاهب الفكرية والعقدية والعرقية.
هذا الصوت الخافت وبقايا الضمير بدواخلنا .. لن يتحرك إلا إذا تحركت معه أصوات شغب داخلي…. شغب يحرك الأفكار لا بل ويصقلها .. أنا أبحث عن ما جاء وليد اللحظة من أفكار .. أبحث عن تلقائية الفكرة …وبراءة الروح …. وعفة الكلمة …. أبحث وأنشد تلك اللحظة ذات النشوة التي تلهب الحماس وتغلي حبر القلم.!.. لتصل وبالنهاية إلى شعور الاحتفال … الاحتفال بالتسامح … وبالسلام .. نعم السلام! .. أي سلام أنشد؟ .. هو ذاته السلام الذي استبدل القتال .. سلام خير الخلق محمد بفتح مكة وصلح الحديبية .. وهو السلام الذي أفضى إلى جــــو سـلـمـي أدى إلى أن يختلط الناس بعضهم ببعض من غير نكير، وإلى أن يُسمِع المسلمون المشركين دعــــوة الإسلام، وأن يجادلوهم ويناظروهم في جو آمن، هذه الدعوة السلمية هي التي كانت سبباً في إقناع كل العقلاء بالدخول في الإسلام…!
أي سلام أنشد؟ .. سلام يوسف مع إخوته.. ذلك السلام الذي أقره حتى وهو معلق بين الحياة والفناء في غيابة الجب… هو ذاته السلام والتسامح مع أهل مصر وامرأة العزيز والذي أحاله من عبد اشتروه بدراهم معدودة إلى سيد البلاد ومنقذها! هو السلام والتسامح مع بعض العناء… وقليل من الصبر… !
والسؤال المطروح… ما علاقة هذا بواقعنا ؟ .. أعتقد أننا بمثل هذا الحال ينبغي علينا أن نحافظ على سلامنا وتسامحنا الداخلي والمجتمعي والقومي ، وننطلق منه نحو الحوار الانساني… ينبغي علينا أن نبدأ بالتسامح مع الجميع ونتحاور ونتحد مع من يسعى لأن تكون حاله مثل هذه الحال، وأن يستغل الدعاة دعوتهم للبشر ويبينوا لهم بإخلاص أن القتال والعنف ليس هدفاً من أهدافهم، بل إن كل ما يريدونه هو أن يُعْطَوْا حرية الدعوة إلى دين يرونه حقاً ويرون فيه مصلحة للمدعوين دينية ودنيوية ، وهم حين يفعلون هذا سيكونون مقتفين سـنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، انظر إلى الكلمات الرقيقة الحازمة التي خاطب بها قريشــاً، والتي كانت من أسباب عقد الهدنة، قال لهم صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم؛ فإن شاؤوا ماددنــاهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهرْ فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فـعـلـوا وإلا فقد جمّوا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره).
وبالختام … وبالتفكر بحالنا… يظهر لي أن الحال في كثير من بلاد الغرب التي كثيراً ما نتقن وصف محاسنها ، وفي كثير من البلدان العلمانية والتي يسود فيها نوع من الديمقراطية … أقول إن الوضع في تلك البلدان شبيه إلى حد ما بحال المسلمين مع المشركين في الفترة ما بين يوم الصلح ويوم الفتح وشبيه بحال يوسف مع أهل مصر…حتى وهو بداخل السجن !
أعتقد أن ميلاد شذرة جديدة كهذه هو ميلاد لي من جديد.. لعله يوقد شمعة أمل .. أو يمنحني إشراقة وكأني معها أعانق فيها عالم الفكر لأول مرة .. مرحبا بك أيتها الافكار المتشاكسة … تعاركي وتأكدي أن في عراكك مجد لكلمتي من جديد … كلمة جديدة يدور فلك مجدها ما بين التسامح والسلام .
د. أيسر العُمري
مقالات سابقة للكاتب