يشهد عالمنا المعاصر العديد من التحولات في جميع الميادين إلا أن هذه التغيرات والتحولات لم يواكبها تغيرات وتحولات في الميدان الإداري ، وهناك قناعة مفادها أن الفجوة الأساسية بين الدول المتقدمة أو الصناعية والدول النامية هي فجوة إدارية في المقام الأول ، والمقصود بهذه الفجوة ندرة الكوادر والكفايات الإدارية القادرة على ممارسة مهنة الإدارة بكفاءة وفاعلية وإنتاجية وجودة ؛ لذا جاءت رؤية خادم الحرمين الشريفين للجودة الوطنية في المؤتمر الوطني الثالث للجودة ، بأن تكون المملكة العربية السعودية بمنتجاتها وخدماتها معياراً عالمياً للجودة والإتقان في العام 2020م، وبمثابة بوصلة ستقود وتوحِّد الجهود في مجال الجودة والتميز بمختلف القطاعات التي تساهم في تحقيق رؤية الحاضر للمستقبل – الرؤية الطموحة 2030 – للوصول بمنتجات وخدمات بلادنا إلى المستوى العالمي لتتمكن من المنافسة وتعزز اقتصادنا الوطني ومكانة المملكة الإقليمية والعالمية ، لذا فإن كثير من المؤسسات تسعى إلى تطبيق مبادئ إدارة الجودة الشاملة؛ لتتماشى مع الاتجاهات الحديثة في الإدارة ، لكننا نعاني من ندرة النماذج التي تصلح للاقتداء بها في إدارة الجودة الشاملة ، فأخذ بعضنا يبحث عند الأمم الأخرى شرقاً وغرباً عن نماذج تطبيقية لها ونسينا أعظم تجربة ناجحة في إدارة الجودة الشاملة تخطيطاً وتنفيذاً عرضها القرآن الكريم قبل خمسة عشر قرناً إنها ( قصة ذي القرنين ) .. كان ذو القرنين ملكاً صالحاً ، وقد أعطاه الله من القوة وأسباب المُلك ما لم يكن لغيره، فذكر الله من حسن سيرته ورحمته وقوة ملكه وتوسعه في المشارق والمغارب ما يحصل به المقصود التام من أخذ العبرة من سيرته ومعرفة أحواله ، فأخبر أنه أعطاه من كل شيء سبباً يحصل به قوة الملك ، وعلم السياسة وحسن التدبير؛ ومما يميز ( ذو القرنين ) مهارة الاستماع، فرغم صعوبة التواصل مع القوم الذين لايفقهون قولاً إلا أنه استمع إليهم بهدف الوصول إلى أولى خطوات تلبية حاجات المستفيد، وهي تحديد المشكلة التي يعاني منها ويريد منك حلها.
وكذلك وضوح الأهداف بإعلام أولئك القوم بوصف المنتج الذي يسعى إليه في حل مشكلتهم وهو : بناء ردم يتصف بأمرين رئيسين : لايمكن تسلقه، ولايمكن ثقبه.
كما حرص ( ذو القرنين ) على بذل الأسباب الواضحة وعدم الركون إلى الأحلام والتواكل وتمني حصول الكرامات؛ بل كان يُتْبِع السببَ بالسببِ.
ففي مجال رضا المستفيد: صدق ( ذو القرنين ) في تحقيق ما وعد به؛ كيف لايرضى المستفيد الذي حصل على أفضل منتج بأقل الخسائر؟! ( بلا قتال، بلا خراج، بلا استعباد.. ) ، بل حصل على التدريب والتأهيل وبناء الثقة.
ورغم إتقان جودة منتج ذي القرنين ( الردم ) إلا أنه لم يخدع الناس، بل أخبرهم أن الردم الذي بناه سينهار في الزمن المقدَّر له ، قال تعالى : ” فَإِذا جَاء وَعْد رَبِّي جَعَلَه دَكَّاءَ ” (الكهف: ٩٨).
والتعاون مع المجتمع الداخلي والخارجي، وهذا ما أتقنه ( ذو القرنين ) عن طريق توزيع العمل على فِرق، ورغم أن ذا القرنين بإمكانه القيام بالعمل في بناء الردم بجيشه القوي لقوله تعالى: ” إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِي الأرْض وَآتَيْنَاه مِن كُلِّ شَيْء سَبَباً ” (الكهف ٨٤)، ولكن الأكثر أهمية عنده هو تأهيل الناس وتعويدهم على العمل والدفاع عن بلدهم بالتدريب العملي ، فقسَّم الناس إلى أصناف : صنف يأتون بزبر الحديد، وصنف يشاركون بإشعال النار بالنفخ، وصنف يأتي بالنحاس المذاب ، فِرَق العمل تعمل الأسابيع الطويلة لإنجاز ذاك الردم بإتقان وجودة عالية.
وفي الختام لاينبغي لأي مؤسسة تعليمية أو غير تعليمية أن تتوقف عن استمرارية التطوير والتحسين بحجة أنها نالت الشهادات العالمية في التطوير؛ لأنها إذا توقفت عن التطوير فإنها بالضرورة تتأخر، فالكون لا يعرف الوقوف، لذا عليها أن تحرص على أن تتغير وتتقدم وإلا فستتأخر وتفنى.
وهانحن نترقب اليوم العالمي للجودة والذي يصادف الخميس الموافق 24 / 2 / 1438 هـ حيث سيكون هذا العام تحت شعار ( الجودة التزام وعزم وإتقان وحزم )؛ ولنا أن نتساءل بهذه المناسبة : ماذا قدّمنا وماذا سنقدم وهل ستلبي أهدافنا وأعمالنا احتياجات العملاء وتحقق رضاهم ؟ الكثير من علامات الاستفهام التي نضعها لنقيِّم أعمالنا ولنطورها للأفضل .. فالجودة أسلوب حياة؛ ورحلة مستمرة.
أ. منى المحمادي
مشرفة الجودة بمكتب تعليم خليص
مقالات سابقة للكاتب