ليست المرة الأولى التي أكتب فيها، إلا أنني هذه المرة أشعر أن حروفي تخونني هذه اللحظة .. بل إن الأبجدية كلها تقف بمعانيها وكل جمالها وعمقها وفن حروفها أمامي عاجزة .. وأشعر أني بحاجة لحروف أقوى في المعنى لتساعدني على التعبير عما في خلجات نفسي .. علمًا بأنها ليست المرة الأولى التي أحاول أن أكتب عنه .. وكلها دون جدوى! وأنا على يقين أنكم تشعرون بمثل مشاعري .. فالذي أحبه .. وعنه أتحدث أفتقده كثيرًا في حياتي .. غيابه كان قدرًا ! وحنيني إليه ابتلاء، وقفت أمامه عاجزة عن رد بعض ما قدمه لي .. وكلما تذكرته تجرَّعت ألم الفراق .. وزاد له حنيني! كيف لا ولفراقه حزن كلهيب الشمس يبخر الذكريات من القلب ليسمو بها عاليًا .. فتجيبه العيون بنثر مائها .. ليطفئ لهيب الذكريات!
فالفراق لسانه الدموع .. وحديثه الصمت .. ونظره يجوب السماء على رحابتها .. بل إن الفراق هو القاتل الصامت .. والقاهر المميت .. والجرح الذي لا يبرأ .. والداء الحامل لدوائه! إنه الشعور الذي تعجز الحروف عن وصفه وإن حاولت! كالعين الجارية التي بعد ما أخضر محيطها جفت!
ولهذا الفراق حديث في العيون .. وكلامًا لن يقرأه أي عابر بهذه الدنيا .. ويصبح الوداع لوحة من المشاعر يستميت الفنانون لرسمها ولا يستطيعون! وهذه هي آخر ما سجله الزمن في رصيد حياتي عنك يا أبي! حين ظننتك غافيًا على حجري، وقتها لم يدر ببالي سوى أنك كنت تغط في نومٍ عميق .. لم أفقه حينها أن روحك الطاهرة صعدت للسماء! أُسقط في يدي حين علمت أنها النهاية! لم أستطع تحمُّل المشهد! لم تسعفني حتى العبرات لتطفئ لهيب الحزن ولوعة الفراق وطعنة الألم!
فبعد فراقك .. لا أنتظر بزوغ القمر لأشكو له ألم البعد .. لأنه سيغيب ليرمي ما حمله ويعود لنا قمرًا جديدًا بوجه جديد تستلذ به العيون .. ولا أقف أمام البحر لتهيج أمواجه وتزيد على ما بي من دموع .. لأنه سيرمي بهمِّه في قاع ليس له قرار ويعود لنا بحرًا هادئًا من جديد .. وهذه سُنَّة الكون لا محاله! يوم يحملك .. ويوم تحمله، لكنني أحاول أن أستعيد قواي وأنهض من جديد وأمسك قلمي وورقة من هنا أو هناك وأستدعي حرفي عله يأتي على عجل ليبعثر حديثي الكامن في نفسي لك يا والدي ويحكي مشاعري!
فيا قمرًا أضاء ظلام عقلي .. فأضاء لي طريق حياتي .. ويا شمسًا أذابت جمود قلبي .. وفجّرت ينابيع الأمل .. يامن غرس حب الله في فؤادي .. ورسَّخ عقيدة التوحيد في أعماقي .. يا من كان لي أبًا في الحنان والأمان .. ومعلمًا في الطيبة والأخلاق .. وأخًا في النصح والإرشاد .. حتى أضحت نصائحه نورًا أسير عليه في حياتي .. ولا زلت يا أبي كما عهدتني إلا انني أتذكر ابتسامتك التي كانت تطفئ األمي وخوفي .. ويا له من أمان لم يكرره الزمن ..
بحر قلبي الواسع هو أنت .. وموج عقلي الدافئ أنت .. يا قدوتي الأولى ونبراسي الذي ينير حياتي .. يامن علمني أن أصمد أمام أمواج البحر الثائر .. يا من أعطاني بلا حدود .. فأنا مهما وصفتك لن أستطيع أن أكمل .. ليس تهاونً .. ولكن شيء أعمق من ذلك بكثير .. فنحن أصبحنا في زمن لا يرحم .. الأيام فيه تمضي على عجل والفرص فيه لا تعوض .. وكل مرة أتذكر كلماتك: ” سامحوا .. واعفوا .. وابتسموا بقرب الأحبه ” نعم يا أبي لكنها أيام أصبحت قاسية .. ففي كل يوم لنا قصة .. وفي كل يوم تتبدل مشاعرنا وتتغير نظرتنا للحياة .. ففي كل يوم نكتشف جانبًا من جوانب من حولنا .. في كل يوم تتوسع أعيننا من عجائب الدنيا .. في كل يوم تصم آذاننا من غرائبها .. وأصبح لنا في كل يوم حكاية .. إلا أنني على يقين وثقة بربي أن أبقى يا أبي كما عهدتني .. حتى بك التقي!
ففي نظر العالم أنت أبي .. وفي نظري أنت العالم!
أ. نويفعة الصحفي
مقالات سابقة للكاتب