الغربة مرة ..

من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق كتب أرزاقهم كما كتب آجالهم فلا ينتهي رزق مخلوق حتى ينتهي أجله ، وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه ، فلقد قسم الله الأرزاق بين عباده فجعل رزق بعضهم قريباً منه بين أهله وجعل كذلك رزق البعض الآخر بعيداً عن هؤلاء الأهل ، وهذا كله بحكمته التي تجلت في كل شيء ، فمن الناس من يترك وطنه ودياره وأهله وأبنائه ليضرب في الأرض البعيدة لتوفير الرزق ويتحمل المشاق والسفر والغربة وهو مع ذلك منحه الله الصبر على كل تلك الصعاب ، فمنهم من يقضي السنوات دون أن يلتذ بالقرب من أهله وأبنائه ويجد من ألم الغربة وعذابها ما لن يستطيع من لم يذق ذلك الألم مهما حاول أن يستحضر ذلك ..

 فتجد ذلك المغترب حين يضع رأسه على الوسادة فتهيج به لواعج الشوق ويود أن لو يتخذ جناحين ليطير بهما إلى أحبابه وأبنائه فيشمهم ويقبلهم بين أعينهم ويضعهم في حضنه ولو لبرهة من زمن كي يطفيء نار الشوق ، وربما أسال الدموع الغزار وبلل موضع رأسه على وسادته ثم لا يلبث أن يسلم عينيه للكرى ويطير إلى عالم الرؤى والأحلام الجميلة ، فيرى فيه ما أعوزه في الحقيقة ، وهذا أيضاً من رحمة الله بعباده فهو رحيم عطوف رؤوف بمن خلق ، لذلك وجب على الذين لم يتذوقوا طعم الغربة أن ينظروا إلى من اغترب عن دياره بعين الرحمة والشفقة والحدب عليهم وليتذكروا نعمة الله عليهم أن جعلهم بين أهليهم وأبنائهم وليحاولوا أن يتمثلوا ولو لبرهة حال هؤلاء ليحسوا ببعض ما يعتلج في صدورهم …

فكم رأيت من المغتربين حين يخلو بنفسه ويتذكر أهله يتخذ ركناً قصياً ثم يطلق من عينيه دموعاً سخينة تبرد لهيب الشوق في قلبه ليستمر في توفير رزق أبنائه ، ووالله لولا هذه الدموع لما استطاع أن يكمل أيام غربته بعيداً هناك عن أهله وأبنائه وذويه ..

ولقد تعجبت كثيراً من أفعال البعض من سب وشتم للعمال والخادمات وقولهم “بأنهم إنما جاءوا لنهب ثرواتنا” ولو أنصفوا أنفسهم واستحضروا يقينهم وإيمانهم أن لا أحد في الدنيا كائناً من كان يستطيع أخذ ولو حبة خردل مما قسمه الله له لارتاحت الضمائر ولهدأت الأنفس ، فيا من تملك خادمة في بيتك أسالك بربك الذي تؤمن به أن تتأملها قليلاً حين تخلو هي بنفسها ..فاجأها مرة فسوف تجدها تبكي برحمة الأم أو البنت أو الزوجة المحبة لزوجها ، فكم منهن من تركت أبا شيخاً كبيراً أو أماً مريضة أو أيتام تسعى هي لتأمين احتياجاتهم ، وقد قدر الله لها أن تأتيك فتكون شريكاً في تربية هؤلاء الأيتام من غير أن تعلم أنت سوى أن الله أراد لك الخير في عاجل دنياك وآجل آخرتك ، فان لله أموراً ولطائف لا نعلمها نحن ولكن الرؤوف الرحيم أرادها لنا فأن أحدنا لا يعلم بأي أمر فعلناه يدخلنا الله به الجنة ، فلنشكر الله على نعمائه ونسأله أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليقاً للشر وأن يكتب لنا التوفيق في كل شؤوننا وأمورنا ..

ولنستحضر كذلك أن كل مسلم في الأرض هو أخ لنا ، أليس نصلي ونرتص بجانب بَعضُنَا في صلواتنا بدون تمييز ، وكذلك فيا ما من جعله الله سبباً في رزق أحدهم ابتسم لخادمك وعاملك فربما تكون هذه الابتسامة شفاء ولو بعض حين لغربته فيتسلى بها فيمنحك الله راحة في نفسك وتوفيقاً في حياتك بين أهلك وأبنائك وليكن رسول الله قدوتك في هذا الأمر في تعامله مع كل من يلقاه حتى الذين عملوا على إيذائه صلى الله عليه وسلم ، وأخيراً صدق من قال “الغربة مرة”.

 

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “الغربة مرة ..

جاسم ابو محمد

الف الف مبروك التخرج ي فيصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *