جالس في زاوية المقهى أرتشف من قهوتي تارة، و تارة أخرى أقرأ وجوه الجالسين، إنها هوايتي الممتعة كنت أجتهد في تحليل الشخصيات و أنماطها، و ها قد أثمرت جهودي وأول من وقعت عليه عيناي عامل في المقهى تعابير وجهه تظهر السرور بدخول شخص عجوز لطيف معروف ببساطته رغم ما لديه من متاعب ظهرت على جبينه، و الأم التي تداعب طفليها، وتطعمهما قطعا من الحلوى تستلذ طعمها بمجرد أن يتذوقها صغيراها… كم ينطق وجهها حباً بل عشقاً للطفلين !
تخاف عيناها فقدهما، ولو خُيرت بين حياة مرفهة بكل ما تعنيه الكلمة مع ترك أبنائها و بين حياة بائسة معهما لرفضت الأول و اقتنعت بالثاني، و كان بالقرب مني شخص مصاب بالوسواس القهري يخاف من البلاطات الصغيرة يتحاشى أن تلامس قدماه زوايا البلاطة، وها هو يمسح شوكته وملعقته ثلاث مرات بمنديله، ويخرج معقماً دسه في جيب قميصه؛ ليعقم يديه بين الفينة والأخرى و من يرى تصرفاته يستنتج ذلك.
نظرت لساعتي لقد تأخر أخي كثيراً ، ولم ألحظ النصف الساعة التي مرت ، استمررت في قراءتي و رأيت صديقين مع بعضهما كان الأول سعيداً بوجوده مع الثاني و كأنه ينتظر هذه المقابلة منذ زمن بعيد، أما الثاني لا يمكن أن أصف بغضه و كرهه لصديقه الأول، لم أرَ قط في حياتي كمية من الكره ممزوجة بالغيرة و الحقد إلا في هذا الشخص، غريب أمره!
ضحكت على حالهما .. كيف يغفل الأول عن تصرفات صديقه الظاهرة ؟! وكيف أن الثاني بهذا الخبث فهو يشبه الأفعى التي تهم بلدغ صاحبها فما أحوجه إلى مراقبة تحركات صديقه! بل عليه الحذر والابتعاد عنه.
أنهيت قهوتي …مرت تسعون دقيقة ـ بغطرسة ـ” أنا فارس الجوهي المعروف بدقة مواعيده الكاره للانتظار أيعقل أن أجلس لأنتظره كل هذا الوقت؟”
(أتأمل حديثي ) .. رباه ماذا حدث لي أأصبحت مثل مدير المقهى المصاب بالنرجسية المتحدث بعلو، فهو لم يكتفِ بتعليق إنجازاته على حائط المقهى ، بل يطيل الحديث عنها، فيذكر لنا كوب القهوة الذي منحه متشرداً في ليلة شتاء باردة، وبضع قروش تصدق بها على أحد العمال عندما كان جائعاً مازال إلى اليوم يمن بها عليه كلما طالب بزيادة أجرته.
بقيت مترقباً حضور أخي الذي يحمل خبراً يرفعني إلى أعالي السماء، أو يسقطني على حافة الطريق هكذا هي الأمور المصيرية مقلقة …بطيئة دقائق انتظارها.
جلست أتأمل الشفق الأحمر من خلف الزجاج، قطع حبل أفكاري طفل صغير وقف أمام الزجاج يتأمل قطعة الحلوى الموجودة بصحن طفل صغير، ولكن عانى معاناة الكبار .. طفل صغير بدل أن يلعب ويلهو مع من هم بسنه يعمل ليجني ما يسد رمقه، ثيابه رثه تفوح منها رائحة الفقر، حافي القدمين، اصطبغ وجهه بالغبار، واكتملت البراءة في عينيه.
أشفقت على حالته، فأشرت له بالدخول… دخل و أجلسته بجانبي و كل من حولي يرمقني بنظرة انزعاج لطلبي دخول هذا الطفل الفقير، طلبت له بعضاً من الحلوى و الحليب، أكل بعينيه قبل فمه؛ فشهيته مفتوحة تتوق إلى أطايب الطعام… بعدما انتهى من تناول الطعام شكرني، فابتسمت له… أخرج من جيبه بضعة قروش و مدها لي، عجيبٌ هو لديه عزة نفس لا تُكسر!
بعد محاولات، و إصرار مني أن يأخذ ماله، و أننا أصبحنا أصدقاء، و الصديق وقت الضيق كما يقال وافق، و غادر و البسمة تعلو شفتيه.
ها قد وصل أخي أخيراً بعد انتظار، ألقى السلام و جلس أمامي
– أحمل خبرًا محزناً لم تُقبل قصتك، وحاولت معهم بكل الطرق إلا أن محاولاتي باءت بالفشل.
– يا للأسف! و ماذا بعد؟
– كما قلت لك حاولت لكن دون جدوى، معوضٌ إن شاء الله.
– يعلم الله كم من نيران تشتعل في قلبي صراعات داخلية أعيشها الآن.
أخي يكذب علي في شيءٍ مصيري.
أخي يكن كل هذه الغيرة و لمن؟! لأخيه الذي كان سنين طوال معه، كان في الضراء قبل السراء، اتخذت قراري الآن ويجب أن أواجهه بكذبته
ـ (بغضب يسري في شراييني)
“ماذا قالوا لك؟ أتحسبني ساذجاً ؟”
“عيناك تفضحانك كاذبٌ كاذبٌ كاذبٌ”.
قلتها بانفعال، وكل من بالمقهى يلتفت صوبنا.
أكملت: “لم أتوقع أنك ستكون أول المسرورين بفشلي، وتمثل الضيق والحزن يا لك من ممثل فاشل!”
– خرجت من المقهى مسرعاً لم ألحظ وجوه المارة… لم أقرأها …
أنا مشغول بنارٍ تضطرم في صدري تتأجج تحرقني، حاولت فتح باب شقتي فإذ بزوجتي تفتح لي الباب، هل كانت في انتظار قدومي؟ أم أرادت التسلل من المنزل في غيابي لتقضي السهرة مع رفيقاتها ؟
عيناها وتعابير وجهها تخبراني لا حاجة بي إلى السؤال.
لِمَ أتيت الآن ؟ سؤال لم أسمعه، يكفيني أني قرأته.
اتجهت إلى مكتبتي، و مزقت جميع كتب تحليل الشخصيات و أنماطها؛ لم أتوقع أن هوايتي تسقطني في الهاوية، أصبحت لا أثق في أحد ..
نعم هذا ما وصلت إليه و أكثر .
ها أنا ذا أتساءل أمريض أنا أم الناس أصبحت سيئة؟!
كاتبة القصة : رناد صالح الطياري