لم تكن جارتنا بالأنثى المألوفة ، فقد كنت أرى فيها أنموذجاً مختلفاً للأنثى الواثقة من نفسها ، الأنيقة شكلاً وموضوعاً ، المرتَّبة في بيتها وحديثها معاً، كانت إذا تحدثت فاضت لباقةً وإذا صمتت حمل صمتها الكثير المثير من الكلام لأنها عندما تخرج من صمتها هذا لا تأتي إلا بالمتفرد العطِر من الكلام ، تجيد فن الإنصات والحوار معاً ، ليست كبقية النساء ممن أراهن في مجلس والدتي – حفظها الله – اللاتي يتحدثن بصوت واحد وفي لحظةٍ واحدة !! تتملكني الدهشة دائماً حول مقدرتهن على سماع بعضهن البعض والرد بذات الوقت ؟ .. كانت إذا تحدثت صمت الكل وإذا تحدث الكل صمتت هي ، كلماتها منتقاة بعناية فائقة تماماً كهندامها وعطرها ومكياجها ، كثيراً ما أحسست في حضرتها بأنني تلميذة تعارك أبجديات التعامل في الحياة علها تظفر منها بشئ ، لست كثيرة الجلوس مع صديقات والدتي لأسباب عديدة أهمها عدم وجود مواضيع مشتركة بيننا لاختلاف اهتماماتنا لكن كنت أحرص كل الحرص على الانضمام إليهن عند حضور هذه الجارة ، كنت أرى فيها الأنثى الموسوعة فقد كانت تفهم بكل شئ .. السياسة ، الرياضة ،الأدب ، الطب ، حتى على مستوى الفكاهة كانت مختلفة ، كانت الأقرب لوالدتي من بين كل صديقاتها ربما لوجود قواسم مشتركة كثيرة بينهن ، كنت أرقبها عن كثب .. لم تكن فائقة الجمال بل تُصنف عادية لكن الناظر إليها يرى فيها جمال كل النساء مجتمعات .. أهم ما يميزها تلك الابتسامة التي تلازم شفتيها ملازمة الظل لصاحبه .. عندما أتحدث إليها أشعر بأن عقارب الساعة تقفز قفزاً ويتسرب الوقت مني بشكل غير طبيعي .. كانت إمرأة ساحرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى .
على النقيض تماماً كان زوجها !! صاحب الوجه المتجهم والملامح القاسية ، جلف بمعنى الكلمة ، ضخم الجثة فارع الطول بعكسها تماماً فقد كانت رشيقة القوام دقيقة الملامح ، باختصار كان قمئ الشكل تماماً ، كان عندما يتحدث حديثاً عادياً يشعرني بأنه في حالة خصام ، صوت عالٍ وعبارات تذكرني بصرير بابٍ حديدي صدئ ( لا أدري ما الرابط بينهما .. ربما كان ذلك بجامع الإزعاج في كلٍّ ) .. صوت وقع قدميه على درج البناية يذكرني بوصف الجنود ذوي الأحذية الثقيلة في ميادين التدريب العسكري .. خطى رتيبة منتظمة ترج الأرض رجاً .. ويالها من عاصفة ورعد وسيل من الكلمات الوقحة إن كان غاضباً ، كان ولديه يسعدان لغيابه وأتوقع أن تلك اليمامة الأنيقة تشاطرهما ذات الإحساس ، كنت كثيرة التعليق لوالدتي عن هذا الثنائي المتنافر العجيب !! ولكم تمنيت لو كان لي من الأمر شيئاً ، كانت والدتي تزجرني وتنعتني بالتدخل في حكم الله على عباده – لقاء النسمة والعاصفة – كان هذا وصفي الدائم لهما ، أغرب ما في الأمر أن هذه النسمة لم تشتكِ يوماً من هذا الرجل العاصفة ، كنت أتخيلها تعاني ضغوطاً كثيرة وتتدثر بثوب الصبر ولابد وأن يأتي اليوم الذي تركل فيه هذا الدثار الذي لا أتوقع بأنه يقيها من برودة هذا القمئ وتنفجر فيه .. كثيراً ما وددت مخاطبتها بمفردات نزارية محرضة ( ثوري .. انفعلي .. لا تقفي مثل المسمارِ ) صدقاً شغلتني هذه الجارة كثيراً وربما غض التفكير في بؤس حياتها مضجعي في بعض الليالي .
في ذات مساء هادئ ، كثيف الغيوم ، عليل النسيم على غير عادته ، غامض الملامح ينبئ بشئ ما !! لا أدري ما هو هذا الشئ لكنني كنت أحسه تماماً ، كنت في حالة ترقب لحدثٍ ما غير مُدرَك الكنه ، بادرتُ والدتي بإحساسي فوافقتني الرأي ودعتني للخروج علَّنا نكسر جمود هذا الاحساس اللعين ، رحبتُ بالفكرة وارتديت ملابسي على عجل وخرجنا نتنزه على شاطئ البحر لكن للأسف ظل ذاك الاحساس ملازمنا والصمت رفيقنا ، بعد برهة من الزمن قررنا العودة فقفلنا راجعتين .
عند مدخل البناية كانت تقف سيارة إسعاف وكان طاقم خدمة الإسعاف يحاولون افساح الطريق بإبعاد المارة عنه بينما كان اثنان منهم يحملون جسداً مُسجى على ( نقالة) .. علمنا على الفور بأن الجسد لأحد أفراد عائلة تلك الأنثى فبنايتنا مكونة من ثلاثة طوابق ، نحن نشغل طابقاً والثاني مغلق يخص شقيقي وهو مسافر أما الثالث والأخير فقد عمد والدي إلى تأجيره لهذا الرجل وعائلته ..
علمنا من جلبة المارة أن هناك حالة وفاة ، أسقط في يدي تماماً عندما رأيت (الرجل العاصفة) واقفاً بكامل صحته وقد ازداد وجهه تجهماً وطفليه يتشبثان به وهما يجهشان بالبكاء ، علمنا وقتها بأنها هي التي رحلت ، رحلت بلا مقدمات ، بكل هدوء ، تماماً كعادتها بحياتها .. هادئة كالنسيم .. رقيقة كزهرةٍ حديثة التفتح ، حديثها همس ، ضحكتها كرنفال فرح أنيق ..
تركت الدنيا جارتنا تلك الأنثى النسمة ، كنت شبه موقنه بأنها سترحل لأنها لا تشبه هذه الحياة ولا هي تشبهها ، لم تكن مريضة ، انتهت حياتها فجأة ، رحلت كما الطيف الشفيف ، كأنما كانت على موعدٍ مسبقٍ مع الموت ، ظلت ذكراها ترافقني لسنوات ومازالت ، لم أرَ مثيلة لها مطلقاً حتى الآن ، تساءلت كثيراً : هل كانت حقاً سعيدة مع رجلها العاصفة ؟ هل بسببه سارعت بالرحيل ؟ ما علة موتها ؟ كيف اختارته أو كيف اختارها وقبلت بالزواج منه ؟ هل تزوجها برضاها أم أُجبرت على قبوله ؟ وإن قبلت به لما فعلت ذلك بنفسها ؟ .. ظلت وستظل كل هذه الأسئله بلا إجابات !! حيث لا جدوى من إجاباتها فقد رحلت جارتنا .. لها الرحمة والفردوس الأعلى من الجنان ..
من الأرشيف ( في الذكرى الخامسة لرحيل جارتنا) ،،،،،،،،
قبس الحربي
طالبة الدراسات العليا بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة