( أعطني حريتي وأطلق يديا .. إنني أعطيت ما استبقيت شيئا) .. شد انتباهي صوت كوكب الشرق المهيب .. الذي يخالط الروح في مزج غريب فيسري فيها فرحٌ عميق سرعان ما يكشف عنه وجهك في ابتسامة رضا تعلوه فيراها الرائي وقد يدرك كنهها أو لا يدركه .. إرتديت ثيابي على عجل فقد كنت أجلس بمفردي بشقتنا الكائنة بشارع ( 26 يوليو ) بقاهرة المعز .. لم أنتظر المصعد للنزول إلى أسفل البناية بل قفزت على الدرج قفراً كأنما سيغدر بي لحن الأغنية فيتناثر في آذان السامعين دون أن أصيب منه ما يسعدني ..
في ركنٍ قصيٍ من مقهى صغير بسيط وعاديٌّ جداً ( مقهى كلاسيك ) ولا يمت إلى ( الأناقة أو الشياكة ) بأي صلة .. وعلى كرسييّ المعتاد الذي درجت على الجلوس عليه كلما طلبني صوت ( الست ) في بيت الطاعة – كعهدي به – ..قدِم إليَّ النادل مرتدياً زيه الأحمر اليومي والذي يحمل اسم المقهى المنقوش عليه بخيوط حريرية صفراء ( نادي الفن ) .. هو فعلاً كذلك .. فالفن عندي على علاقة جدلية بصوت الراحلة أم كلثوم فهي الفن والفن هي .. بابتسامته المعهودة قدم لي خليطي اليوم ( كوب عصير الليمون مع النعناع الطازج ومكعبات الثلج التي تسبح فيه على مهل كأنما ترحب بي ) ..
جلس قبالتي ناظراً آليَّ بتمعن غريب .. كادت عيناه أن تلتهمني .. أحسست بالارتباك .. تريثت على أمل أن تكون نظرته فضولية عابرة سرعان ما تتحول عني .. أشحت بوجهي بعيداً عنه خشية اعتقاده بأنني أرقبه لغرض ما .. سرى فيَّ لحن الأغنية فأخذني بعيداً عما ومن حولي .. إدارة المقهى برغم اختلاف أعمار منسوبيها إلا أنهم يرددون وبشغف كبير كلمات الأغنية كلَّ على طريقته .. بسيط في هيئته عميق في مدلوله هذا المكان .. جهاز التسجيل العتيق الذي ألِف صوت وألحان ( الست ) لم أسمع منه – طيلة مدة إقامتنا بهذا المكان – أي لحن آخر لأي فنان آخر كأنما تم تجييره لها فأصبح حكراً على أغانيها ..
سرت فيَّ جرأة نظراته كالتماس كهربائي جعلني أضطرب كلما حانت مني التفاتة نحوه .. لم يبدِ أي حركة .. كان مبتسماً ابتسامة هادئة حانية تناسب عقده الخامس والذي تجاوزه قليلاً – حسب تقديري – .. أناقته الحادة توحي باحترامه لنفسه ولمن حوله .. لم يتبادر إلى ذهني مطلقاً بأنه يرغب في مغازلتي فكل ما فيه يقول غير ذلك .. تملكتني الحيرة وبدأت أفقد متعة ونشوة اللحن .. أحسست بأنه ضيَّع عليَّ الكثير من ( الصولات ) التي تميزت بها ألحان رياض السنباطي عن غيرها وبهذا اللحن على وجه الخصوص ..
قررت أن أتجاهله تماماً وأركز باللحن .. إحتسيت كوبين من الشاي الأخضر المنعش وطلبت فنجاناً من القهوة – رغم أنني لا أحبها مطلقاً – لست أدري لما طلبتها ربما كانت خياراتي في هذا اليوم واقعة تحت تأثير إرتباكي بسبب هذا الرجل القابع أمامي .. سمعت صوته لأول مرة وهو يحادث النادل ( شيشة لو تكرمت ) .. قالها دون أن يحول نظره عني .. زاد ارتباكي خشيت أن يلحظ النادل نظرته الفاحصة لي .. بدأ يدندن بكلمات الأغنية بصوت هادئ جميل دونما نشاز .. أمعنت في تجاهله واللحن مسترسل في تناغمية رائعة بين الكلمات والصوت ( هل رأى الحب سكارى مثلنا .. كم بنينا من خيالٍ حولنا .. ومشينا في طريقٍ مقمرٍ .. تثب الفرحة فيه قبلنا ) ..
إندمجت بكل حواسي مع اللحن إلى حد إحساسي بأنني انفلتت من قبضة رقابته .. أعادني إلى بوتقة رقابته صوته للمرة الثانية وهو يطلب من النادل ( غير الحجر لو تكرمت ) .. وبذات النظرة وذات الابتسامة الهادئة الحانية التقت عيوننا .. فقدت رباطة جأشي ووقتها فقط قررت قراراً حاسماً بالتقدم نحوه وسؤاله إن كان يعرفني أو أنني أشبه أحداً يعرفه هو واختلط عليه الأمر .. كان يدخن بتلذذ وتتسع ابتسامته عقب كل سحابة دخان ينفثها من فمه ..
إستدعيت النادل ودفعت ثمن مشروباتي .. قمت واقفة .. أصلحت من ثيابي .. استجمعت كبرياء وثقة الأنثى بنفسها مرتبةً بمخيلتي ما سأقوله له بكلمات محددة دونما إسهاب ..
تقدمت نحوه بكل هدوء وقبل أن أصل إليه كانت مفاجأتي أكبر من توقعي .. سبقتني إليه فتاة في عقدها الثاني تعلو وجهها ابتسامة عطف لم تستطع إخفاءها متمتمة بعبارات اعتذار مفادها أنها تأخرت في الحضور إليه بالموعد المحدد بسبب ازدحام السير بالشوارع .. ثم أمسكت بيده لتقوده مبصرةً الطريق بدلاً عنه وهي تبعد عن طريقه كل ما من شأنه أن يعترض سيره وهو بذات النظرة وذات الابتسامة في كل الاتجاهات …
قبس الحربي – طالبة الدراسات العليا بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة
( القاهرة – الثامنة مساءً – ١ / ٨ / ٢٠١٥ )
قصص سابقة للكاتية:
– بيتنا الجديد
– ذكريات جارتنا