دلفتُ إلى حيث كان جالساً يطالع صحيفته اليومية ، حدسي تغشاه ضبابية مخيفة فتحجب عني قراءته ، جلستُ بجواره وصمت الكهوف يلفنا ، حركة عقارب الساعة الجدارية التي تحاكي في رتابتها مطرقة القاضي عند ختام جلسة حكم بالإعدام ، جهاز التلفاز الذي تتباين أخباره بين قمع ، قتل ، شجب وتواطوء ، قطتي التي تكومت في خمول ، فستاني بألوانه الغامقة التي تعكس سوء مزاجي ، عناد خصلات شعري التي كلما عمدت إلى جمعها خاتلتني باحثة عن حريتها ، زخات المطر التي تنزل بقوة لا ترحم على زجاج نوافذ الصالة كأنما تعاقبها على التصدي لها ومنعها الدخول ، كل ذلك كان بمثابة مراسيم جنائزية محنطة تقتال اللحظات كآبةً ..
على الأريكة المجاورة له جلست .. لم ينتبه لوجودي – على غير عادته – بل لم يعرني حتى التفاته وأنا تلك التي طالما تغنى بها .. أميرته المدللة التى يسبقها عطرها قبل حلولها عنده فيثير فيه لواعج الشوق والحنين .. تلك التي تتهادى خيلاء فيكاد ينفصل نصفاها غنجاً .. تلك التي تضئ ابتسامتها كل الوجود فتحيله الى بقيعة ضوءٍ يسبح فيها كل من وما حوله فيغتسل طهراً.. تلك التي تهديها الأرض أسمى آيات الشكر كلما علتها وزغردت ( رنة خلخالها ) طرباً بين جنباتها .. تلك التي ترسل خصلات شعرها لتعانق خديه كلما أمعنت في غزلها نسمة .. هكذا كان يصفني وهكذا كان يتغنى بي ..
فرقعة أصابعي ، اضطراب جلستي على الأريكة وتغييرها بين فينة وأخرى .. كل ذلك يشي بحجم قلقي .. ممَ ولمَ لست أدري ؟! .. السماء تذرف دمعها غزيراً كأنما تشاطرني كآبتي .. سواد حالك خلف النوافذ .. ليل داج .. البؤس يضرب أطنابه على فلوات روحي فيجعلها إلى خواء .. على المنضدة قبالتي استقر كتاب كنت أطالعه في ليلتي ما قبل الفائتة في ذات قلق مماثل .. تناولته .. الأعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل .. تصفُح عشوائي كان من نصيب هذا الكتاب الثمين ..ومن نصيب قصيدة بكائية الليل والظهيرة ( يادقة الساعات هل فاتنا ما فات .. ونحن ما زلنا .. أشباحَ أمنيات .. في مجلس الأموات .. ياآخر الدقات .. قولي لنا من مات .. كي نحتسي دَمَه ونختم السهرات .. بلحمه نقتات ) .. حتى أنت ياأمل !!! .. تتآمر علئَ ؟! .. هكذا حدثتُ نفسي .. تبرأت من أمل ومن كل ما حولي وأغمضتٌ عينيَّ أناوش حدسي عله يتراجع عن ضبابيته .. حبست السماء دموعها فساد هدوء مربِك .. أخرجني من سكوني الجليدي صوته الرتيب بهدوئه المألوف معلناً عن خروجه وعما إذا كنت أريد شيئا .. هززت رأسي بالنفي فغادر ..
اليوم وأنا أرفل في السواد ( حساً ومعناً ) تراءت لي ذكرى تلك الليلة الماطرة .. تلك المغادرة في ذلك اليوم المشهود المشؤوم والتي آلت إلى غير رجعة .. إلى البعيد البعيد
قبس الحربي