يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ* ) نعم أنت كذلك كما وصفك ربك وخالقك والمطلع على خبايا وخفايا ذاتك أيها الإنسان بمجرد أن تصيبك ضائقة فإذا بك تتضجر وتتبرم وتشتكي وتنسى في لحظة الضائقة العابرة كل النعم التي أولاكها وأنعمها الله عليك منذ أن كنت نطفة وعلقة في بطن أمك إلى أن شببت عن الطوق وقوي عودك واستويت إنسانًا كامل الخلقة.
ولو استقبل هذا الإنسان الجَحُود ما استدبر من أمره لخر ساجدًا لله تعالى بما أولاه من النعم الظاهرة له والباطنة والخفية عنه، ولكن الشيطان يحاول بشتى السبل أن ييأس الإنسان ويلقي في روعه أنه محروم وأن غيره أفضل منه مهما تكدست النعم بين يديه وإلا ما معنى قول الشاعر البائس اليائس:
أن حظي كدقيـق فوق شوك نثروه ** ثــم قــالــوا لحـفــاة يـوم ريح اجمعوه
صــعــب الأمــر عـلـيـهـم ثــم قــالــوا ** إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه
وقول الآخر :
صـبـرنا إلى أن مـل مــن صبرنا الصبر ** وقــلــنـا غـدا أو بـعـده يــنــجـلـي الأمــر
فـكـان غــد عـمـرا قــد امــتـد حـبـلـه ** وقد ينطوي في جوف هذا الغد الدهر
فهل بعد هذا اليأس والتشاؤم والقنوط من أمـلٍ في الرجوع إلى ترويض النفس وحثها على التفاؤل والصبر، وإقناعها بأنها ترفل في نعم قد فقدها كثير ممن حولها؟ الفقر صعب ومؤلم نعم هذا أمر معلوم وكل النفوس تأباه، ولكن أين فضيلة الصبر على البلاء؟ إن الله سبحانه وتعالى له حكمة في تمحيص إيمان المرء واختباره بنقص في الأموال والأنفس والثمرات، ليعلم من يصبر ومن يتضجر ويتبرم ويشتكي شكوى من لم يمر بخير قط.
سبحان الله فيالك من جاحد أيها الإنسان العجول، ومن أكبر الأخطاء أن يظن المرء أن الرزق يكمن فقط في المال، ألا تعلم أن الصحة التي تتقلب فيها أيها الإنسان هي رزق؟ ووجود الأولاد بجانبك رزق، وهدوء البال والسكينة والطمأنينة رزق، والعلم والمعرفة رزق، والأمن الذي ترفل فيه في حين أن غيرك محروم منه رزق، فكم من الناس من لديه مال ويتمنى أن يشتري به ساعة من صحة أو أمن أو سكينة أو ولد يحمل اسمه من بعده فأعوزه ذلك.
وإذا تأمل المرء ما يحيط به من النعم لخجل من شكواه وتبرمه وتسخطه، ولعلم أن الحياة لا تسير بالمادة فقط، فقد يقول البعض إن وجد المال وجدت السعادة كما نسمع دائما في وصف ذوي اليسار والأموال أنهم سعداء أو أصحاب سعادة، نحن رأينا الظاهر فقط، والله أعلم بما يعانون من عدم السكينة وراحة البال وموفور الصحة والعافية، فإن بذهاب العافية تذهب حلاوة كل شيء، فلا يستسيغ الإنسان طعم طعام أو شربة ماء، وكما قال حكيم: “إن هذا الطعام إن كان طيبا فإنما طيبته العافية”.
ولا ينبري شخص ويقول إنني أدعو إلى التكاسل والتواكل فإن الأمر أبعد ما يكون عن هذا الموضوع تماما، وقلة ذات اليد ليس معناه أن الله ساخط على العبد؛ فكثيرا ما نسمع أن هذا الشخص ما أصابه الفقر والفاقة إلا لأنه بعيد عن الله، فماذا نقول إذًا عن الأنبياء والصالحين، وهم أشد الناس فاقةً وابتلاء؟ فيجب أن تصحح المفاهيم وأن توضع الأمور في نصابها كي تستقيم الحياة.
الصبر على البلاء سبيل الأنبياء والصالحين الأتقياء من عباد الله، وإلا كيف نفهم قول الله تعالى ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾. ولكن نحن في هذا الزمن الذي أصبحت المادة والمال هما كل هم البشر، وأصبح الناس ينظرون نظرات معوجة إلى أصحاب الأموال والتقرب منهم وحملهم فوق الهامات حتى وإن كانوا لا يساوون شروى نقير في ميزان الله، وبهذه النظرات الحولاء للأمور انقلبت المفاهيم وضاع الحق في خضم بهرجة المادة وطغيان المال وجمعه بأية طريقة ووسيلة كانت، فقط لحفظ الامتيازات التي تحققها الأضواء التي تسلط على أصحاب هذه الامتيازات وذوي اليسار، كما هو الدارج والمسمى في عصرنا العجيب هذا، برغم أن الكل يعرف أن العكس هو الصحيح.
نعم قد يسكن المرء في قصر فاره وتملأ جنباته وزواياه التعاسة، وربما يسكن آخر في كوخ حقير ليس فيه من حطام الدنيا سوى سقط المتاع ولكن فيه من السعادة ما يتمنى سكان القصور لو يتفيأوا تحت ظل زاوية من زواياه برهة من زمن؛ كي يشعروا وينعموا ببرد السعادة التي فقدوها داخل قصورهم وما دروا وجهلوا أن السعادة لا تكمن خلف الجدران؛ بل بين جنبات وضمير النفس الإنسانية.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب