إن أول من اخترع الجدل والمناظرات التي تحاول قلب الحقائق هو إبليس، ومن ثم نشرها بين أتباعه من الإنس والجن ليسيروا تحت لوائه وعلى خطى منهاجه فلا يكن بذلك هو المتمرد الوحيد الذي ينال جزاءه فيرمى في الجحيم وحده؛ بل يجب أن يأخذ معه أتباعًا من الإنس ومن بني جنسه، هكذا تعهد لربه لو أنظره ألى يوم يبعثون بعدما رأى مصيره البائس بسبب معاندته وكبره وغروره وعصيانه.
فعندما خلق الله تعالى أبا البشر آدم عليه السلام، وهو سبحانه أعلم بمن يخلق وأمر الملائكة بالسجود له تحية لهذا المخلوق الجديد، وطاعة لأمر خالقهم سجدوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر فمن ذا يجرؤ على مخالفة أمر ملك الملوك إلا إذا كان مدخول العقل تعيس المنقلب.
ولكن اعترض إبليس حسدا لآدم الذي ظن لبؤسه وتعاسته أن آدم سيسلبه امتيازاته، فلما سأله ربه عن سبب مخالفته لأمره وهو سبحانه أعلم، وأن يبرر ويعلل عدم سجوده وهذا كرم إلهي لايستحقه إبليس، ولكن الله سمى نفسه الحكم العدل، أجاب بأن السجود فيه إهانة لشخصه؛ إذ خلق من عنصر النار وهو يرى أنها أفضل من عنصر الطين الذي أمر بالسجود له، وهذا الكلام والفعل منه فيه استكبار وغرور ورعونة، وقال بصريح العبارة ودون خجل وغره حلم الكريم عليه ﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ وكأنه بهذا القول المتعالي يحاول التقليل والاستصغار من شأن آدم فأصبح بذلك هو المعلم الأول عبر كل عصور التاريخ للعنصريين الذين يعتقدون ويؤمنون بنقاء عنصرهم وعرقهم وأن الدماء التي تجري في عروقهم أنقى من دماء سواهم برغم علمهم أن أباهم واحد، وأنهم مخلوقين من عنصر واحد هو التراب وما اختلط معه من العناصر التي تكونه.
وليت شعري من أين جاء بهذا التبرير الساقط والحجة الواهية التي تسقط عند أول شعاع من أشعة شمس الحق والحقيقة؟ ومن الذي قذف في روعه بأن عنصر النار أرقى وأعلى مرتبة من عنصر الطين؟ فلنسلم جدلا أن ما يقوله صحيح ـ وهو غير صحيح بالفعل ـ ولكن نسير شوطا مع ادعائه ونسأل أي عنصر أرقى وأفضل النار أم النور؟ الكل يعلم أن النور أرقى من النار، فلماذا سجد الملائكة الذين خلقوا من نور وأبى هو المخلوق من نار الأقل رتبة من النور ؟ ولكن الكبر كان مسيطرًا عليه.
ونفس القضية ورثها إبليس لأتباعه من بعده، فالنمورد ادعى أنه يستطيع أن يحي ويميت، فلما طلب سيدنا إبراهيم منه اثبات ادعائه بالدليل والحجة جاء بحجة واهية لاتقنع، وفي النهاية بهت الطاغية لما رأى أنه ساقط الحجة، وأنه أدمغ بحجة أقوى، هنا أخذ يستعمل قوته وجبروته حتى أهلكه الله بمخلوق ضعيف، فأهين إهانة بالغة جزاء وفاقا.
وفرعون أتى بنفس الجدل الفارغ والكلام الساقط، فقد ادعى أن موسى عليه السلام جاء ليسيطر على أرض مصر، على الرغم أن موسى لم يذكر الأرض قط في كل حديثه ومحاوراته لفرعون، ورمى موسى بأنه ساحر وأنه هو من علم سحرة مصر السحر، فمتى قابل موسى السحرة والتقى بهم حتى علمهم وهم تحت بصر فرعون ومخابراته؟ إنه الادعاء والإفتراء وهو يعلم أن موسى صادق فقد قال له موسى ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ والآيات التي قدمها ليثبت نبوته وأنه مرسل من ربه ليطلق فرعون بني إسرائيل ويكف عن تعذيبهم وتسخيرهم له.
فكيف يدعي فرعون أن موسى جاء ليأخذ أرض مصر وهو يطلب منه أن يتركه وقومه ليخرجوا من مصر؟ إنه الافتراء والدجل الذي يمارسه الطغاة لتهييج الشعب على من يظنون أنهم جاؤوا يسلبونهم الملك، وهنا يلعب فرعون دور الواعظ وأنه صاحب دين، وفي عرفه أنه لا ضير في استعمال بعض المكر والخديعة والمراوغه والتباكي على مصير شعب مصر الذي يحرص على راحتهم وهنائهم في ظنه، فيذرف بعض دموع التماسيح كما يقال ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ منطق عجيب من طاغية ادعى أنه إله، ومتى كان لفرعون دين؟!
ولو تمعنّا في كل هذا الجدل لوجدنا أنه ينبع من مخرج واحد؛ هو الكبر والغرور والعُنجهية، ويصب في إناء واحد هو الافتراء والكذب، وأن المتولي كبر هذه الادعائات كلها هو إبليس، نعم هو المستشار لهؤلاء المجادلين الساقطي الحجة، برغم أن الأنبياء جاؤوا ببراهين واضحة وحجج جلية لكن من ينبه الغافلين السائرين في الغي لذلك؟ قال الله عن فرعون ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ فماذا كانت النتيجة (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ(99) ﴾ وفي النهاية ينبهنا الله علام الغيوب بقوله ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب