جدل وافتراء إبليس

إن أول من اخترع الجدل والمناظرات التي تحاول قلب الحقائق هو إبليس، ومن ثم نشرها بين أتباعه من الإنس والجن ليسيروا تحت لوائه وعلى خطى منهاجه فلا يكن بذلك هو المتمرد الوحيد الذي ينال جزاءه فيرمى في الجحيم وحده؛ بل يجب أن يأخذ معه أتباعًا من الإنس ومن بني جنسه، هكذا تعهد لربه لو أنظره ألى يوم يبعثون بعدما رأى مصيره البائس بسبب معاندته وكبره وغروره وعصيانه.

فعندما خلق الله تعالى أبا البشر آدم عليه السلام، وهو سبحانه أعلم بمن يخلق وأمر الملائكة بالسجود له تحية لهذا المخلوق الجديد، وطاعة لأمر خالقهم سجدوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر فمن ذا يجرؤ على مخالفة أمر ملك الملوك إلا إذا كان مدخول العقل تعيس المنقلب.

ولكن اعترض إبليس حسدا لآدم الذي ظن لبؤسه وتعاسته أن آدم سيسلبه امتيازاته، فلما سأله ربه عن سبب مخالفته لأمره وهو سبحانه أعلم، وأن يبرر ويعلل عدم سجوده وهذا كرم إلهي لايستحقه إبليس، ولكن الله سمى نفسه الحكم العدل، أجاب بأن السجود فيه إهانة لشخصه؛ إذ خلق من عنصر النار وهو يرى أنها أفضل من عنصر الطين الذي أمر بالسجود له، وهذا الكلام والفعل منه فيه استكبار وغرور ورعونة، وقال بصريح العبارة ودون خجل وغره حلم الكريم عليه ﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾  وكأنه بهذا القول المتعالي يحاول التقليل والاستصغار من شأن آدم فأصبح بذلك هو المعلم الأول عبر كل عصور التاريخ للعنصريين الذين يعتقدون ويؤمنون بنقاء عنصرهم وعرقهم وأن الدماء التي تجري في عروقهم أنقى من دماء سواهم برغم علمهم أن أباهم واحد، وأنهم مخلوقين من عنصر واحد هو التراب وما اختلط معه من العناصر التي تكونه.

وليت شعري من أين جاء بهذا التبرير الساقط والحجة الواهية التي تسقط عند أول شعاع من أشعة شمس الحق والحقيقة؟ ومن الذي قذف في روعه بأن عنصر النار أرقى وأعلى مرتبة من عنصر الطين؟ فلنسلم جدلا أن ما يقوله صحيح ـ وهو غير صحيح بالفعل ـ ولكن نسير شوطا مع ادعائه ونسأل أي عنصر أرقى وأفضل النار أم النور؟ الكل يعلم أن النور أرقى من النار، فلماذا سجد الملائكة الذين خلقوا من نور وأبى هو المخلوق من نار الأقل رتبة من النور ؟ ولكن الكبر كان مسيطرًا عليه.

ونفس القضية ورثها إبليس لأتباعه من بعده، فالنمورد ادعى أنه يستطيع أن يحي ويميت، فلما طلب سيدنا إبراهيم منه اثبات ادعائه بالدليل والحجة جاء بحجة واهية لاتقنع، وفي النهاية بهت الطاغية لما رأى أنه ساقط الحجة، وأنه أدمغ بحجة أقوى، هنا أخذ يستعمل قوته وجبروته حتى أهلكه الله بمخلوق ضعيف، فأهين إهانة بالغة جزاء وفاقا.

وفرعون أتى بنفس الجدل الفارغ والكلام الساقط، فقد ادعى أن موسى عليه السلام جاء ليسيطر على أرض مصر، على الرغم أن موسى لم يذكر الأرض قط في كل حديثه ومحاوراته لفرعون، ورمى موسى بأنه ساحر وأنه هو من علم سحرة مصر السحر، فمتى قابل موسى السحرة والتقى بهم حتى علمهم وهم تحت بصر فرعون ومخابراته؟ إنه الادعاء والإفتراء وهو يعلم أن موسى صادق فقد قال له موسى  ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾  والآيات التي قدمها ليثبت نبوته وأنه مرسل من ربه ليطلق فرعون بني إسرائيل ويكف عن تعذيبهم وتسخيرهم له.

فكيف يدعي فرعون أن موسى جاء ليأخذ أرض مصر وهو يطلب منه أن يتركه وقومه ليخرجوا من مصر؟ إنه الافتراء والدجل الذي يمارسه الطغاة لتهييج الشعب على من يظنون أنهم جاؤوا يسلبونهم الملك، وهنا يلعب فرعون دور الواعظ وأنه صاحب دين، وفي عرفه أنه لا ضير في استعمال بعض المكر والخديعة والمراوغه والتباكي على مصير شعب مصر الذي يحرص على راحتهم وهنائهم في ظنه، فيذرف بعض دموع التماسيح كما يقال ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾  منطق عجيب من طاغية ادعى أنه إله، ومتى كان لفرعون دين؟!

ولو تمعنّا في كل هذا الجدل لوجدنا أنه ينبع من مخرج واحد؛ هو الكبر والغرور والعُنجهية، ويصب في إناء واحد هو الافتراء والكذب، وأن المتولي كبر هذه الادعائات كلها هو إبليس، نعم هو المستشار لهؤلاء المجادلين الساقطي الحجة، برغم أن الأنبياء جاؤوا ببراهين واضحة وحجج جلية لكن من ينبه الغافلين السائرين في الغي لذلك؟ قال الله عن فرعون ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ فماذا كانت النتيجة (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ(99) ﴾ وفي النهاية ينبهنا الله علام الغيوب بقوله ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾.

إبراهيم يحيى أبوليلى 

مقالات سابقة للكاتب

11 تعليق على “جدل وافتراء إبليس

متابع

كاتبنا الكريم:
كل ماذكرته هو حقائق وردت في كتاب الله ومقالك مجرد تقرير لها . فأنا كقارئ احتاج منك أن تربط هذه الحقائق بواقعنا اليوم وتصل بها الى نتيجة تبين عاقبة ذلك .فأصول كتابة المقال تتطلب أن يختم الكاتب مقالته بخلاصة تفيد القارئ .

وضاح

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مقال كتب بمداد من ذهب ابداع بكل ما تعنيه الكلمه هذا ما تعودنا عليه من خلال مقالات استاذنا الفاضل التي تحمل في طياتها رسائل محبه للجميع استاذنا الفاضل لقد بينت لنا قدرة الله سبحانه وتعالى في خلق الاضداد وعجائب قدرته في خلقه هذا من تراب وذاك من نار واظهار محاسن الضد ضد غيره كما وضحت لنا المقياس الفاسد الذي استند عليه ابليس وحذرتنا من الكبر والاستعلاء وان الكبر اول ذنب عصي به الله تعالى في السماء وانه من اشد وافتك واخطر الامراض التى تؤدي الى الهلاك وان المتكبرين هم اسواء واتعس اخلاف لاسلاف ملعونين
استاذنا الفاضل ارجو تقبل هذه الرد المتواضع لمقال رائع
تحياتي القلبيه
وضاح من البرزه

جزاك الله خيرا

بارك الله فيك – أعتقد أن المقال يذكرنا بأصل
من أصول الحياة وقانون من قوانينها الشر لابد أن
يحيط بأهله والخير منتصر لابد ولو بعد حين

الكاتب جعل مقاله همسات لأولي الألباب
والذكي يفهم المغزى

وعلى ماقيل في المثل
((يلقط العلم وهو طاير ))

وأحسن الكاتب في أعتقادي في عدم ربطها بالواقع المباشر
حتى لا يظن فيه بغير المقصد أو المقصود
فأنت لديك الميزان فزن نفسك فإما احمد الله
أو ارجع بنفسك قبل لقاء الله

والذكرى والتذكير تصلح النفوس أفضل من
التصريح والتجريح والتلميح

مع أحترامي لآراء الآخرين
أخوك كاتب

ابراهيم يحيى ابوليلى

الاخ الكريم متابع بارك الله فيك ونفعنا بعلمك وسدد رإيك انا اكتفي بردي عليك فاحيلك الى رد الاخ الكريم الذي رمز باسم ( جزاك الله خيرا ) فقد والله كتب كلما كان ينبغي ان اكتب وارد فجزاه الله خيرا من قارئ واع وحصيف فقد تبين من المقال كلما رميت انا به ورمته وانت تقول ان. المقال مجرد تقرير فلو كان كما ذكرت وختمت المقال كما طلبت انت لاصبح تقريرا كامل الاركان وانا تعمدت كتابته بهده الصوره التي هو عليه ليستخرج القارئ من المقال ما يفهمه هو ولن احدد للقارئ او افرض عليه رأيا قد يكون خلاف ما يرى هو وهنا بيت القصيد والمغزى من هذا المقال واخيرا اشكر لك انتقادك الواعي والحضاري وانا اتقبل بل واتعلم من الجميع فجزاك الله عني خيرا وتحمل اخطائي ان اخطأت ولا ضير ان نتعلم منكم عزيزي متابع لك ودي .

ابراهيم يحيى ابوليلى

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته اخي الغالي وضاح الذي طالما تفضل بردوده التي استفيد منها في مقالاتي وكما ذكرت لك سلفا انك نعم العون بعد عون الله وتوفيقه فردودك بحق عباره عن دافع لي للمضي قدما وانا حقيقة انتظر ردك لكي اتعلم منه فانت مشاركي في مقالاتي بدون مجاملة فاسال الله ان لا يحرمني منكم وان يجزل لكم الاجر والمثوبه فنحن اذ نكتب انما للفائدة نكتب وهذه الصحيفة هي صوتنا لنوصل ارائنا ومعارفنا وماتعلمناه للاجيال وكذلك نتعلم من تجارب الاخرين فلك مني كل الحب والتقدير ولاهل البرزه واهل خليص الكرماء عامة كل الود .

ابراهيم يحيى ابوليلى

اخي الكريم الذي رمز باسم ( جزاك الله خيرا) حقيقه لقد ادهشني جدا ردك فكأنك في خاطري حين كنت اكتب مقالي المتواضع هذا فمن خلال ردك علمت ان هناك فعلا من يقرأ بتمعن وفكر متقد ماشاء الله تبارك الله فارجو ان لا تحرمني من ارآئك المفيدة وكنت انت في غاية الذكاء عندما ادركت انني لم اشأ ربطه بالواقع ليستنبط القارئ ما يستنبطه من المقال برأيه هو ولم اشأ ان افرض رأي في ختام المقال اهنئك اخي بهذا العلم وهذه الحصافة فبارك الله فيك وسدد رإيك وزادك علما ومعرفة ونفعنا الله بك وبأمثالك لك كل الود والتقدير .

ناجي غطاس

مشكور علي هذا المقال واسأل ربي ان يجعله في ميزان حسناتك..نحن امه ابتليت بالجدل …والجدل نوعان ..نوع مستحسن وهو جدل بالحجه والموعظه الحسنه وهو الجدل الذي امر الله به امه محمد صل الله عليه وسلم وجدل ابليسي وهو كما وضحت انت في المقال مستصحبا ايات الكتاب الكريم…
احد الاخوه قال ان المقال تقرير…لا اوفقه في ذلك لان الكاتب دوره هو ان يحثنا علي القراءه وليس تعليمنا كيف نقرأ..وارجو ان تقرأ المقال من باب انه يصب في خانه حث العباد علي التمعن في ايات الله وطبيعه البشر التي تميل الي الجدل…واظن ان المقال ممتع ويحثك علي التفكير ..

ناجي غطاس

مشكور علي هذا المقال واسأل ربي ان يجعله في ميزان حسناتك..نحن امه ابتليت بالجدل …والجدل نوعان ..نوع مستحسن وهو جدل بالحجه والموعظه الحسنه وهو الجدل الذي امر الله به امه محمد صل الله عليه وسلم وجدل ابليسي وهو كما وضحت انت في المقال مستصحبا ايات الكتاب الكريم…
احد الاخوه قال ان المقال تقرير…لا اوفقه في ذلك لان الكاتب دوره هو ان يحثنا علي القراءه وليس تعليمنا كيف نقرأ..وارجو ان تقرأ المقال من باب انه يصب في خانه حث العباد علي التمعن في ايات الله وطبيعه البشر التي تميل الي الجدل…واظن ان المقال ممتع ويحثك علي التفكير ..
بارك الله في كاتب المقال وبارك الله في قلم يستصحب ايات الله (الخبريه والتقريريه ووووالخ)

متابع

اخي الغالي
شكرا لايجابيتك العالية . وجهة نظر فقط . وتبقى رمزا من رموز الصحيفة . دمت موفقا .

جزاك الله خير

وجزاك الله خير أخي العزيز

أرجو لك التوفيق وأن ينفع بك وترى به النفع في
نفسك
اكتب ونحن سنقرأ

تقبل تحياتي أخوك كاتب

جمال

أرى أن يضع الكاتب رأيه بأسلوبه وطريقته ثم يترك للمتلقي التعليق دون الدخول في نقاش مع القرّاء لأن الأفهام تختلف حسب ما أوتي المتلقي من علم

وهذا ما نشاهده في مقالات الكتاب في الصحف اليومية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *