قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم للوهلة الأولى عند قراءة العنوان أنني سوف أتحدث عن مدينة الضباب “لندن” أو مدينة النور “باريس” كما يحلو للبعض تسمية هذه المدن من الذين يهوون السياحة الخارجية؛ ولكنني وبكل فخر أتحدث عن أجمل مدينة في الدنيا؛ إنها مكة المكرمة، التي لا تحتاج إلى دعاية وإعلان لإظهار جمالها للزائرين.
نعم مكة التي تحوي أجمل وأفضل بيت من البيوت التي وضعت على الأرض، بل إنه البيت الأول كما قال علام الغيوب ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ وأنا إذ أتحدث عن مكة فلأنني ولدت فيها وترعرعت في جنباتها ولعبت في أزقتها ذات الرائحة العبقة، وشربت من ماء زمزم المبارك الذي يشفي السقيم.
إنها رائحة كسوة الكعبة التي تعطر بأغلى وأروع عطور الدنيا، كنا نصعد إلى جبل عمر المطل على البيت الحرام، وننظر في حبور إلى الحرم المكي الشريف، ونشير بأصابعنا الصغيرة الغضة إليه وما يعلوه من مآذن، التي نسمع صدى الأذان منها خمس مرات في كل يوم وليلة، وهنا تسعفني ذاكرتي أنني كنت أصعد إلى سطح البيت في الهزيع الأخير من الليل واستمتع حقا بأذان الفجر الأول حين يصدح به المؤذن (حسان رشاد زبيدي) رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ففي تلك اللحظة كنتُ أحس وكأن كل أبواب السماء قد فتحت لاستقبال كلمة الله أكبر، ويسري صوته في الملأ الأعلى أن أيها الغافون في هذه المدينه الجميلة مالكم نيام؟ هبوا إلى داعي الصلاة.
نعم نشير بأصابعنا إلى ما حول هذا البيت من منازل وشوارع وأزقة، وكأننا نرسم خارطة في أذهاننا الصغيرة لهذه البلدة الطيبة المباركة، ونحتفظ بها في ذاكرتنا لتُترجم حين منامنا إلى أحلام سعيدة لهذه المدينة الرائعة بكل ما فيها من بهاء ورونق وجمال.
نعم أيها السائحون تعالوا إلى هذه المدينة؛ واستشعروا الروحانية التي تغمر نفوسكم بمجرد أن تطلوا وتشرفوا على أول علم من أعلام مكة، أو جبل من جبالها الشامخة كشموخ مناراتها، والشيء بالشيء يذكر فلقد صادفت في يوم من الأيام أحد الإخوة من الجنسية الفرنسية، وكان حديث عهد بالإسلام، فوجدته شارد الذهن تعلوه الدهشة والحيرة وكأنني به يسأل نفسه من الذي جمع هذا الخليط من الناس في هذه البقة دون تمايز أو اختلاف في الطبقات كلهم يصطف بجانب بعضهم؟ فهناك الأبيض والأسود والأحمر وكل ألوان البشر؟ ثم يطأطأ رأسه مجيبا نفسه: إنه الإسلام وكفى.
حقًا إن مكة ترتاح فيها النفوس المتعبة، ففيها روحانية لا توصف، إنها الملجأ الآمن للطير والشجر بل حتى الحجر، ألم أقل لكم إنها أجمل مدينة على ظهر المعمورة؟ تعلو مآذنها فتعانق مآذن الحرم القدسي الشريف، وتآخي في علوها مآذن طيبة الطيبة، فيا أيها المسلمون كم أنتم محظوظون إذ مُنِحتم هذه الجواهر الثلاث؛ فأي عاقل يستبدل هذه المدن بباريس أو لندن أو البندقية؟
وأنا على يقين لو أن أفلاطون قد وفق لمعرفة مكة لصاح من شدة النشوة ها أنا قد وجدت ضالتي؛ المدينة الفاضلة التي كنت أنشد وأبحث، لكن المسكين قد تاه عن هذه المدينة العصماء، وظل يبحث حتى أرهقه البحث، ولم يجد مدينته الفاضلة، أما أنا وأنتم فنهتز طربًا لأننا وجدنا أفضل مما طلبه أفلاطون؛ نعم وجدنا مكة؛ وجدنا أم القرى بحق.
أيها الباحثون عن أجمل مدن العالم: هلموا إلينا فقد وجدناها؛ إنها مكة المكرمة حيث سار الحبيب في عرصاتها، وحين أخرجه قومه منها تلفت إليها قائلا “أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِنْ كُنْتُمْ وُلاةَ هَذَا الأَمْرِ مِنْ بَعْدِي ، فَلا تَمْنَعُوا طَائِفًا بِبَيْتِ اللَّهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ ، وَلَوْلا أَنْ تَطْغَى قُرَيْشٌ لأَخْبَرْتُهَا مَا لَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهُمْ وَبَالا ، فَأَذِقْ آخِرَهُمْ نَوَالا “.
ونحن نقول والله ما أحببنا أرضًا قط مثلما أحببنا مكة، فأسأل الله أن يعمرها ولا يحرمني وإياكم منها، وأن يرزقنا الأدب فيها. اللهم صل وسلم على خير خلقك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب