من الظلم أن نتجنى على الثقافة ونحصرها في كتابة مقال في صحيفة، أو قراءة كتاب، أو إلقاء كلمة أو قصيدة في محفل من المحافل فقط ليقال كاتب أو شاعر أو متحدث لبق، فالثقافة أعم من ذلك بكثير، وما أجمل أن يقوم المجتمع المتآلف المتعاضد الذي يتطلع إلى الرقي بفكره عن طريق الثقافة واللجان الثقافية بعقد اجتماعات ليتدارس من خلالها ما يهم مجتمعه ووطنه وأمته.
فالثقافة لا ينبغي أن تُحصر في نطاق ضيق؛ الثقافة ليست كلمة تلوكها الألسن بدون معنى، الثقافة سلوك حضاري وهي كلمة جامعة وفضفاضة إن صح التعبير.
وليست الثقافة أيضًا في جمع الكتب على الأرفف وتزيين المجالس بها والتفاخر بكثرة عددها وأنواعها ومسمياتها، فما فائدة تكديس الكتب دون الاطلاع عليها؟ أو قرائتها دون تطبيق ما تحتويه من أخلاق وقيم نبيلة على أرض الواقع، والتعامل بها مع كل من حولنا دون انتقائية وتمييز؟ فما الفائدة منها إذا لم تؤثر في القارئ؟ هنا تصبح مجرد قراطيس.
فكم سمعنا مثلا عمّن يكتب عشرات الصفحات، أو يُلقي عشرات المحاضرات عن عامل النظافة، وأنه يجب أن يعامل برحمة وإنسانية لما له من دور ظاهر في المجتمع؛ ولكن بمجرد أن يقف أمامه هذا العامل الذي كان منذ لحظات يمجد دوره يستنكف أن يلقي عليه السلام، عوضًا عن مصافحته اشمئزازًا منه واحتقارًا لعمله، هذه ثقافة النفاق الاجتماعي الذي لا طائل منه سوى الكذب والدجل والتجني الفاضح على الثقافة.
الثقافة ليست كلمة جامدة بل هي متعددة ومتجددة ويجب أن تنعكس على الأخلاق، فالاطلاع ثقافة، والحوار الجاد البناء والمفيد ثقافة، وتقبل الرأي الآخر مهما كان مختلفًا عن آرائنا ثقافة، نعم؛ فما قامت الخلافات بين البشر إلا لإنكار الرأي الآخر ورده بمجرد أنه لم يحز على الإعجاب، أو أنه قد خالف رأي الطرف الآخر، وقد علمنا الله وأدبنا بقوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.
وتقبل الآخر والتعايش معه بأريحية، والتعامل الحسن مع الجميع أرقى أنواع الثقافة، فالعقول الضيقة التي تدعي أن الدنيا منحتها هي فقط الفكر، وغيرها حرم من هذا الفكر هي عقول تبقى جامدة ما لم تتحرر من هذا الانغلاق، فكم رأينا وسمعنا ممن يزعم ويدعى الثقافة وهو لم يستطع أن يحرر فكره ونفسه من عادات وتقاليد عفا عليها الزمن؛ عادات يعلم الله أنها لا تأتي بخير أبدًا، بل تنخر في المجتمعات إلى أن تخر ساقطة في هاوية سحقية لا قرار لها.
أفكار منغلقة لا تمت للثقافة بصلة حتى ولو ادعى متبنوها وخدعتهم أنفسهم أنهم في أرقى مراتب الثقافة، فالثقافة فكر متفتح يزن الأمور بميزان العقل الرصين الخالي من عفونات الجاهلية، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ نظافة الداخل قبل الخارج ثقافة لا يفهمها إلا من ارتقى بفكره وتأدب، فليست الثقافة لبس النظيف من الثياب ورص الأقلام في الجيوب والتباهي أمام الناس بكلمات معقدة منمقه، والإتيان بمصطلحات ربما لم يفهمها ناطقها؛ فقط ليقال إنه صاحب ثقافة عالية.
الالتزام بقواعد المرور في السير وإعطاء الغير حقه في الطريق ثقافة، ولا نريد أن نعدد، فمن لا يفهم المقصد من حديثنا أيضًا يحتاج إلى ثقافة، ومن يرمي بالتهم الباطلة جزافًا دون تمحص يحتاج إلى ثقافة الأناة والتريث وتقصي الحقائق.
إن تعدد الثقافات بين الشعوب واحترام كل مجتمع أو أمة هو عين الثقافة، وإلا ما فائدة السفر إلى كل دول العالم إذا لم نرجع ونحن قد اكتسبنا ثقافة جديدة نضيفها إلى ثقافتنا بوعي تام بعد دراستها وأخذ المفيد النافع منها، وترك الضار.
والانتقاد الراقي الواعي الخالي من التجريح فن ثقافي يأتي بالتعلم، وإلا فإننا سوف نتجنى على الآخرين بانتقادنا اللاذع الذي لا يجلب سوى البغضاء.
وأخيرًا فعلى كل فرد في المجتمع أن يجلس مع ذاته قبل انعقاد الاجتماعات في لجان ثقافية، وليجرد كل واحد نفسه من الهوى، ويضع نصب عينيه العمل على رقي مجتمعه دون مكاسب أو أطماع، أيًا كانت هذه المكاسب، هنا نكون بحق قد حققنا مفهوم الثقافة التي نصبوا إليها، وبمفوهمها الصحيح.
نسأل الله أن يهدينا إلى أحسن الأقوال والأفعال.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب