ما إن تعلن هيئة الأرصاد الجوية خبرها المعهود بتلبد السماء بالغيوم وتراكم قطع السحب فيها منذرة بانهمار الأمطار؛ إلا ويستبق سكان أحياء من جده كحي الأجواد والسامر الخطى لأقرب صيدلية يبتاعون منها أقراصًا تهدئ من روعهم وتسكن فزعهم، إلى أن يغلب النعاس أجفان أبنائهم فيغطون في نوم كئيب مما غشيهم من ذعر لاحيلة لهم فيه لمنعه وصده.
حاول الآباء خلالها تكرار النداء والاتصال على من يهمه أمرهم لعلهم يجدوا من يخفف عنهم هلعهم ويخمد توجسهم فينقذهم ممَ هم فيه من رعب ووجل؛ لكن هيهات أن يصحو الميت من سباته العميق مدى الدهر، وإن إرغام النفس على الخلود إلى النوم هي أفضل وسيلة لطرد الأوجاع وأشباح الخوف، فتجرع ترياق النوم أفضل من تجرع الآلام التي يخلفها تدفق المياه إلى منازلهم.
قصص مأساوية تتكرر كل موسم أمطار، وأحداث فاجعة مستقاة من واقع عايشه سكانها طيلة خمسة عشر عامًا أو تزيد، كانوا يمنون فيها أنفسهم بقادم أيام أفضل وأجمل، أملًا في أن يلتفت إلى حاجتهم وافتقارهم أحد ممن تقلد منصبًا وأوكلت إليه المسؤولية لينهي ويزيح عنهم معاناة ظلت تترقبهم على الدوام، لكن تمر الأيام والشهور والسنون وحالهم باقٍ على ماهو عليه، ولا حياة لنداءتهم المتكررة.
منازل تحاصرها المياه من كل حدب وصوب، حصار مطبق، مفرهم الوحيد هو اللجوء إلى أسطح منازلهم بعد اللجوء إلى الله تضرعًا وخيفة، بحيث لا يمكن الخروج من ذلك المأزق إلا بانتشالهم عبر طائرات عامودية تغيرهم، أو قوارب مطاطية تنقذهم، ولسان حالهم يقول: أيعقل أن تكون هذه هي العروس التي كتب عنها الأطباء وتغنى بشواطئها الشعراء؟ (أها جدة ياعروس البحر ).
شعور لا يمكن أن يوصف؛ فتوالي الأزمات المتتابعة سنويا كانت كفيلة لبث الرعب إلى نفسية الآباء قبل الأبناء، مواقف عسرة ألمها شديد البؤس يصعب العلاج منه، فارتباط الفزع والخوف بمرحلة عمرية لا يمكن أن تزول بتقادم السنين، أو تمحى من ذاكرة الطفل الذي تغلغلت فيها تلك المشاهد الفزعة، فقد تولدت لديهم قناعة بأن عوز الآباء رغم توسلاتهم لم يلتفت إليها أحد فهم على شاكلة آبائهم؛ سيبقون ليتعايشوا مع واقع ذلك الرعب بقية أعمارهم المقبلة.
لقد كانت هناك مطالبات صارخة سابقة مثابة واستغاثات بحت فيه الأصوات والحناجر لكثرة النداءات وطلب الغوث في إنقاذ الموقف وسرعة إدراكه قبل أن يتعاظم فتقع الكارثة؛ حيث فند ذلك المقال بعض من معاناة سكان الحي المستمرة مع الأمطار؛ لكن وللأسف كما هي العادة لم يستجب لتلك النداءات أحد، فلم تفلح مناشداتهم عبر منابر الإعلام والصحف اليومية، كما لم تفلح من قبل مناشدتهم المسؤولين عبر القنوات الرسمية.
وها هي المأساة تتكرر وتحل بهم كسابق عهدها مرة أخرى ككل الأعوام السابقة التي تجرعوا فيها جميع أصناف الألم والخوف على نسائهم وفلذات أبناءهم، السؤال الذي لا زال يبحث عن إجابة: هل يعقل أن يكون هذا هو الحال رغم الإمكانات التي وفرتها حكومة خادم الحرمين الشريفين في مملكة الإنسانية؟ رغم الطاقات التي يفترض أنها جندت للقيام بدور يستبق فيها وقع الكارثة؟ واقع الفساد ينبيء خلاف تلك الإمكانيات.
إن الأعمال التي أنجزت من قبل أمانة جدة في هذه المنطقة والتي كللت بحدائق ومننزهات جذابة لاقت بعض الرضى والاستحسان، غير أن سكان تلك الأحياء هم أحوج مايكون إلى أمر أهم وأرفع؛ وهو منع خطر تبعات الأمطار وتجمع المياه التي داهمت منازلهم وممتلكاتهم، فحماية الأرواح والممتلكات أعظم وأجلّ من تلك الأرصفة المرصوصة والحدائق الغناء.
عدنان هوساوي
مقالات سابقة للكاتب