أيقظت صرخات الألم محمد ، ذهب مسرعاً إلى مصدر تلك الصرخات ، فإذا به يجد والدته وأخوته قد بانت على وجوههم ملامح الذهول والرهبة وأعينهم تجاه النافذة ، نظر للنافذة ، إذ به يرى المسجد الذي يقع بنفس الحي يحترق ..
أبي ؟!! أمي أين أبي ؟ لا جواب ، صمتٌ قاتل وبكاء بحرقة ، خرج محمد سريعاً وأخذ يسابق الخُطى وقد تجمهر من بالحي حول المسجد .
صدمة محمد كانت كفيلة بتجميد كل أنواع مشاعره ، أخذ ينظر للحطام والنيران المشتعلة ، توقف المشهد هنا في عينيه ، اختفت الألوان ، كأني به يشاهد فيلماً قديم وقد غطى اللونين الرمادي والأسود كل المكان .. وكأني بعينيه تقول : غادر والدي سريعاً كأن لم يخلق ..
محمد ما بك يا صديقي أفق .. ها من أحمد ، لم يشعر بضرب صديقه على كتفه وإنما خطف ناظريه بشاعة المنظر الذي خالطة جمال المسجد مسبقاً ، فرق كبير وشتان ما بينهما ..
أحمد يخاطب محمد قائلاً : بسم الله الرحمن الرحيم (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )) ، رحمه الله يا محمد ..
ذهب والد محمد ضحية الإرهاب ، وآخرون كثير .. منذ تلك اللحظة ظل محمد منعزلاً ، يفتح النافذة ليرى الشمس فيواجهه المسجد المدمر أمامه ، فيزيد المنظر من ألمه ، بعد مدة قليلة كانت أخبار تفجير المساجد قد كثرت ، وقد غلب فسادهم على البلاد ، فكأنما وضعوا لهم بصمة بشعة في كل مدينة ، أثر جريمة شنيعة في مكان طاهر ..
ازدادت حالة محمد بؤساً إلى أن جاءت اللحظة التي غيرت مجرى عزلة محمد ، دخلت ورد ابنة محمد عليه وهو يقف على النافذة وملامح الأسى والحزن غطت وجهه .. ورد تلك الجميلة التي اختار اسمها والدي ، ورد اسم على مسمى .. لحظة لحظة ورد ،، ورد ،، أعرف هذه الكلمة جيداً كمعرفتي بـ ابنتي .. كلمة في جملة أبي ،، نعم نعم ،، رحمه الله ، دوماً كان يرددها ( ازرع الورد يامحمد ازرع الورد ولو في غير محله ) ..
استجمع محمد ما بداخله من بقايا قوة ، ونظر ملياً في النافذة وهو يردد “محمد ازرع الورد … ولو في .. غير محله…” ، أخذ محمد يفكر بهذه الكلمة وهو يرددها كأنه لأول مرة يسمعها .. نعم هي الحل ، حينها لم يقرر تغيير النافذة بل قرر تغيير المنظر ، وبدأت الأسئلة تنهال عليه من قلبه وعقله ، من كان يجيب قلبه يسأل ماذا بعد يامحمد ؟ ماذا تريد ؟ عقله يجيب : لا أريد أن أعود لذلك الألم كل صباح ، لا أريد رؤية بشاعة فعلهم ، أريدهم أن يروا قوة صبرنا ، وجمال أرواحنا ، وإيماننا الكبير بقضاء المولى الذي جعل من والدي شهيد تحت حطام ذلك المسجد الطاهر ..
ماذا ستفعل يا محمد ؟ حان دوري لأحارب ، وآخذ بثأري وثأر كل مصلي ، حان الوقت لأنهض بسلاح لم يكتشف بعد ، سلاح لم تعهده تقنية حديثة ، سلاح روحاني لكنه سيصلح ما قد تكسر بداخلنا ويعيد لنا ألوان الحياة ، سلاح سيثبت للعالم إذا نظروا إليه أن من ذهبوا هم شهداء عند الله ، ذهب محمد بخطى بطيئة ، وعيناه قد ذرفت دموع ألمٍ عميق ، وبيده سلاحه ، حبات بذور، و بيده الأخرى دلو ماء ، أقبل هنا وهناك يزرع ويزرع، وأخذ ينتظر ضوء الشمس لتنمو أسلحته ليشهد بعدها بفترة وجيزة انفجار قنابله الصغيرة ( قنابل الورد) .. أزهرت حياة بداخل محمد من جديد .
فتون تركي خيشان السلمي