الحلقة الأولى من شاهد على العصر
اين غنام .. ذاكرة تختزن أحداث نصف قرن من الزمان مع ..
دماثة خلق .. وبشاشة وجه .. وابتسامة دائمة
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأهلاً ومرحباً بكم في الحلقة الأوى من حلقات (شاهد على العصر) ويسعدنا أن يكون ضيفنا هو الأستاذ عطا الله بن غنام المغربي رجل التعليم والتربية بالرعيل الأول والقائد التربوي الذي عاصر أكثر من جيل وتنقل بين أكثر من موقع وعاصر الكثير من أحداث عصره على مدار خمسة عقود اختزنت خلالها ذاكرته الكثير من الذكريات والشخصيات والأحداث والوقائع .. عاصر البدايات الأولى لدخول التعليم النظامي إلى المنطقة وما صاحبها من متاعب وصعوبات في السكن والتنقل وشظف العيش .. يحدثك عن المنطقة وكيف كانت غران واحة خضراء تعج بالمزارع المساحات الخضراء وتصدر الخضروات إلى جدة ومكة والمدينة وكيف كانت خليص بساتين يانعة فيها كل أنواع الفواكه والعيون تسيل مياهها على وجه الأرض والمياه الجوفية لا تبعد سوى مترين أو ثلاثة من سطح الأرض .. يحدثك عن عادات الزواج والدبش والصبحة ولعب الزير والحبيش .. يحدثك عن السفر إلى جدة التي تستغرق 6 ساعات في طريق مليء بالحفر والتغاريز ..
|
ذاكرة تتدفق بالقصص الشيقة والأحداث المثيرة .. إنه تاريخ لحقبة طويلة من الزمن مرت على منطقتنا وهي فرصة مناسبة أن يتعرف أبناء الجيل الحالي على ماضي أجادهم وآباءهم وكيف كانت الحياة وكيف صارت اليوم … ولد ضيفنا عام ١٣٥٨ للهجرة ودرس حتى الثالثة الابتدائي ثم ترك الدراسة ليعود إليها وهو متزوج ويكمل من حيث انقطع ليتخرج معلماً من معهد إعداد المعلمين ويتعين بمدرسة موسى بن نصير بغران (بمقرها القديم بحارة الطينة) لمدة عام ثم يعين مديرها فيها ليمكث بها قرابة ثلاثة عشر عاماً .. اندمج خلالها بأهل غران وأحبهم وأحبوه وعمل بإخلاص وتفاني في خدمة أبناء المنطقة ووضع يده بيد راعي التعليم الأول بغران الشيخ حميد بن نصاح الصحفي ليعملا سوياً من أجل توسعة المدرسة وتشجيع أولياء الأمور علي تسجيل أبنائهم وعملا سوياً على فتح مدرسة للبنات وتذليل جميع الصعاب في مواقف لا ينساها له أهالي غران حتى اليوم ومازال متواصلاً معهم وفياً لهم كما هم أوفياء ومحبون له.
لم أكن أعرف من أين أبدأ مع ضيفنا وأي سؤال يكون هو الأول مع تزاحم الأسئلة فكان أن سألته :
خلال عمرك المديد العامر بطاعة الله (إن شاء الله) ما هو أصعب موقف مر بك في حياتك؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأشكر لكم هذه الاستضافة وأسأل الله تعالى أن أكون عند حسن ظنكم بي وأن يعيننا على تقديم ما يسعد قراء الصحيفة وما يكون مفيد ونافع لأبنائي من شباب المنطقة الذين لم يشهدوا تلك الأحداث وأن يأخذوا من دورة التاريخ الدروس والعبر كما أرجو أن تسعفني الذاكرة لتذكر الأحداث واعتذر مقدماً عن أي خطأ أو سهو وجل من لا يسهو.
|
|
الشرارة انطلقت من لعبة (الحبيش) وبيوتنا احترقت أمام أعيننا
|
أما وقد سألتني عن أصعب موقف مر بي فهو موقف لازالت صورته حاضرة في الذهن والمخيلة رغم أنه قد مضى عليه ما يزيد على 50 عاماً .. هز كيان كل من عاشه وغير خارطة الحي الذي نسكنه (حي المغاربة) وطبعت في أذهان أبناء جيله الذين عاصروه. إنها حادثة حريق حارة المغاربة بخليص .. كانت ليلة مختلفة عن كل الليالي .. ليلة توشحت باللون الأحمر .. وعلت فيها ألسنة اللهب عنان السماء وامتزجت فيها الدموع بدخان القش والآثاث والأغنام المحترقة ..
بهدأ الوصف بدأ أبو سعود بالحديث عن فاجعة الحريق وقد شرد بمخيلته إلى الماضي البعيد وأخذ يتذكر الأحداث ويجترها من أعماق التاريخ في كلمات كأنها ما زالت تخرج للتو لتصف حادثة قريبة الوقوع ..
يقول في ثاني أيام عيد الفطر وفي وقت ما بعد العصر من عام 1382 هـ وأثناء ممارسة المواليد لعبة (الحبيش) وهي لعبة شعبية كانت تلعب في الأعياد والأعراس وكان الناس مجتمعين حول الملعبة وكانت تشعل النار من أجل تسخين الدفوف وأثناء انشغال الجميع بمتابعة اللعب وبفعل الريح طارت شرارة لتستقر بمنزل مجاور وكان ذلك المنزل هو منزلي الذي كان مصنوعاً من القش شأنه شأن معظم المنازل في ذلك الوقت مكونة من العشش المبنية من صريف النخل والطرفاء وأغصان المرخ وهذه المكونات سريعة الاشتعال ومما زاد الأمر سوءً وجود رياح شمالية غربية في ذلك الوقت زادت من اشتعال النار وانتشارها وماهي إلا ثواني وقد اشتعل البيت وطارت النار إلى المنازل المجاورة لتأتي على ما يقارب 70 إلى 80 في سويعات أمام حيرتنا وضعف إمكانياتنا ، فلا يوجد في ذلك الوقت دفاع مدني ولا مطافي ولا وسائل اتصال ولا غيرها. لم يكن لدينا سوى الرمل والماء وكانت النار أسرع وأكثر اشتعالا من محاولاتنا لإخمادها فلم تفلح الجهود وهرع الناس إلى منازلهم لإنقاذ من فيها من النساء والأطفال وحمل ما يمكن حمله في سباق مع الزمن ومع لهيب النار .. وتعالات الأصوات .. وأصاب الناس الذهول من هول ما رأوا .. فلا تكاد تسمع سوى صراخ وأصوات ترتفع وأيدي تعلو بالدعوات ومحاولات يائسة بوقوف زحف الناس والرياح تشتد أكثر والمنازل تحترق الواحد تلو الأخر ..
|
بينما كنت اتفقد منزلي وغنمي المحترقة تذكرت ابني (سعود) !
|
أقبل الغروب ودنا الظلام والحال يزداد لهيبا وسعيرا وفقدنا أي أمل في إخمادها وتكونت سحابة سوداء غطت المكان وزادت ظلمة الليل والنيران مستعرة ولم توقفها سوى المنازل التي مبنية من الطوب والحجر والبلك عندها توقف زحف الاشتعال وخمدت بعد أن أتت على كل ما مرت به حتى الأغنام احترقت في الزرايب. وبدأت عملية البحث عن بعض الأغراض لعل وعسى سلم منها شئ وعدت إلى منزلي ابحث وسط الرماد والفحم الملتهب فلم أجد شيئاً لم تأتي عليه النار حتى أغنامي وجدتها متفحمة في أماكنها …
وأخذت اتلفت أبحث عن ابني البكر (سعود) ذا الثلاثة أعوام فلم أجده وأخذت أجرىي يميناً وشمالا اتفحص وجوه الأطفال عن ابني المفقود وسط الأطفال الذين عادوا إلا ابني وعشت لحظات عصيبة لا تنسى .. سعود لم يعد .. ولم يشاهده أحد .. وتيقنت أنه قد احترق .. يالها من صدمة له وفاجعة كبيرة ...لكن عناية الله ولطفه عظيم فقد وجدت سعود مع أحد أقاربه … لحظتها نسيت الحريق والبيت والأغنام وكل شئ بفرحة العثور على سعود حياً ..
|
|
شب الحريق بعد العصر .. ووصلت المطافيء من جدة قبل الفجر !
|
ويكمل ابن غنام الحديث بقوله : استمر وميض الجمر حتى ساعة متأخرة من الليل وإذا بسيارات قادمة من بعيد وعند وصولها تبين أنها سيارات اطفاء قادمة من جدة ساعدت على اطفاء ما تبقى من بقايا الحريق والأخشاب التي مازالت مشتعلة … ومن النوادر التي ذكرت لي أن طائرة ركاب كانت قادمة الى جدة شاهد طاقمها النار وبلغوا عنها عند هبوطها بمطار جدة ,وعلى أثرها تم ارسال فرقة الإطفاء.وقد انتشرت النار بفعل اتجاه الريح بطريق مستطيل ممتد من الغرب الى الشرق حيث توقفت عند منازل مختار بن ناعم من الناحية الشرقية وقد أتت على منازل عدة منها منزل عبد الحافظ محمد علي المغربي ، ومرعي عبد الحافظ المغربي ومهنا بن حامد المغربي ، ونافع بن حامد المغربي، وأحمد بشيبش المغربي ، وراجي يوسف المغربي، ومطلق محمد المغربي، ومبارك محمد ابو سدرة المغربي، وخليل أحمد المغربي، ومحمد صالح بن عبيد المغربي، وحميد مهنا المغربي ، وعمر بن جبيرة المغربي، وحميد بن سليمان، ومحمد سعيد بن مرعي وشاكر بن اسماعيل وعبدالله أبوعجين ومختار بن ناعم ومحمد أبوخيشة والفقيه نافع وبيوت الجباريت.
|
كيف بات الناس في تلك الليلة ؟
|
ورغم الفاجعة والألم إلا أن قلوب الناس كانت متحابة ومتقاربة وتجلت في تلك اللحظات روح الأخوة والمحبة والتكاتف والشهامة فبات الناس تلك الليلة في البيوت التي لم تصلها النار، فالأخ عند أخيه والجار عند جاره وابن العم عند عمه ولم ينم أحد الا في بيت هو بمثابة بيته تماما ، بل تقاسموا مع بعضهم البعض الملابس والطعام والماء والسكن .. هذه الحادثة وهذا الحريق غير خارطة الحي يذكر ابن غنام ان اصحاب المنازل المحترقة عقدوا العزم على البناء واعادة المنازل كما كانت غير أنها بالطوب والحجر والاسمنت . فاستبدلت العشش بالغرف الاسمنتية وتم اعادة الحارة وبني أكثر من 80 منزل ولم يكتمل العام إلا وقد عادت الحياة الى الحي كما كانت غير أنها بشكل أجمل .
|
|
|
ماذا قال عن أصعب موقف وأجمل لحظة شاهدها في تلك الليلة؟
|
وفي نهاية هذه الحادثة المثيرة أخذني مضيفي في جولة على الحي ليحدد لي على الطبيعة الجزء الذي احترق ابتداء من منزله غرباً وحتى منازل مختار بن ناعم شرقاً، وقد كانت مساحة كبيرة أتت عليها النار بها مناطق مرتفعة وأخرى منخفضة وفي أثناء الجولة سألته عن أصعب اللحظات التي مرت بك تلك الليلة ماتزال تتذكرها حتى الآن فأجاب لحظة فقدان ابني وعن أجمل اللحظات فقال ما شاهدته من ألفة ومحبة بين الناس …
شكرت ابن غنام على هذه الحلقة الجميلة وودعته على أمل اللقاء قريباً لنستكمل بقية الحلقات ونستعرض الذكريات مع سلسلة حلقات شاهد على العصر
|
|