السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأهلاً ومرحباً بكم في الحلقة الثانية من حلقات (شاهد على العصر) مع ضيفنا العزيز الأستاذ عطا الله بن غنام المغربي رجل التعليم والتربية والقائد التربوي الذي عاصر أكثر من جيل وتنقل بين أكثر من موقع وعاصر الكثير من أحداث عصره على مدار خمسة عقود.
أستاذنا الفاضل حدثنا عن نشأتك وبداياتك مع التعليم وكيف كانت المدارس في ذلك الوقت ؟
بسم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه … أولاً قبل أن أجيبك على سؤالك أود أن اتقدم بالشكر الجزيل لجميع الذين غمروني بثنائهم العطر وبكلماتهم الطيبة وعباراتهم الجميلة من خلال تعليقاتهم على الحلقة الأولى وكم كنت اتمني أن أرد عليهم وأشكرهم فرداً فرداً لكن الوقت لا يسعفني .. ولكن أرجو أن تبلغوهم شكري وتقديري وامتناني وسعادتي بما أبدوه من مشاعر طيبة نحوي وهذا هو المكسب الحقيقي الذي كسبته من عملي .. فالمال يذهب والمنصب يزول ولا يبقى سوى الذكر الحسن وأنا فخور جداً بجميع زملائي وطلابي المعلمين وسعادتي لا توصف حينما أقابل أحداً منهم ..
أما عن بدياتي فقد ولدت في زمن كانت الحياة فيه صعبة للغاية ، والجوع هو السائد في تلك الفترة ، وأغلب الناس بالكاد يلتمس غداه أو عشاه ، ولم يكن التعليم النظامي قد وصل إلى المنطقة .. كان ذلك الوقت في الستينيات تقريبا ، وأنا كنت طفلا صغيرا من أب متزوج أربع نساء وله 14 بنتا وثلاثة من الأبناء هم محدثكم (عطا الله) وأخواني نبيه غنام وعبدالله غنام.
عشنا في فترة عصيبة كان تأمين لقمة العيش هو الشغل الشاغل لنا
كان علي أن اعمل منذ الصغر لمساعدة والدي وإعالة نفسي مثلي مثل بقية أبناء جيلي في ذلك الوقت فالكل يكد ويكدح من أجل تأمين لقمة العيش.
لكن والدي (جزاه الله خير) ألحقني بـ ( المعليمة) عند الفقيه عبد الله الصبحي بقرية المعيقلية لكي أتعلم القرآن الكريم وهو تعليم بدائي كان يركز على تعليم القرآن والقراءة والكتابة.
ومكثت سنة ثم جاءتنا الأخبار عن افتتاح مدرسة حكومية في ثول فانتقلت إلى ثول وسكنت عند واحد من الجماعة كان عنده دكان في ثول هو محمد بن عطاالله المغربي ودرست هناك الصف الأول ابتدائي متعزبا عند محمد وكان مدير المدرسة آنذاك الأستاذ محمد الرابغي، وبعد نهاية العام واجتياز الصف الأول، انتقل الأخ محمد المغربي إلى قديد فانتقلت معه وكان في قديد مدرسة حكومية فدرست الصف الثاني هناك عند الأستاذ عبد الله بن بغران الهندي. وأكملت السنة الثانية بقديد.
وهنا سألت : لماذا هذا التنقل من ثول إلى قديد ، ولماذا ثول وقديد سبقت خليص في التعليم ؟
سبب التنقل يعود إلى ارتباطنا مع محمد بن عطالله في السكن كان هو ينتقل طلبا للعيش هنا وهناك ، ونحن معه. أما وجود التعليم في قديد قبل خليص هو بسبب أن قديد كانت تتبع رابغ التي كانت في ذلك الوقت حاضرة تلك الديار.
أمضيت العام الثاني في قديد وعدنا إلى خليص ووجدنا أن مدرسة أسامة بن زيد الابتدائية قد تم اعتمادها كأول مدرسة في خليص وكان ذلك في عام 1374هـ هنا بدأت تعود حياة الاستقرار وتذهب حياة الترحال من هجرة إلى هجرة ، وبدأت الدراسة، والتحقت بالصف الثالث الابتدائي أنا ومجموعة من زملائي. وفي نهاية العام وبعد إعلان النتائج تلفت في وجوه زملائي بالصف وكان الفقر والعوز يكتنفنا جميعا أنا وزملائي والحاجة للطعام هي أكثر مطالبنا فقررنا جميعا ترك الدراسة، كنت تقريبا في الثالثة عشر من عمري أو الرابعة عشر ، قلنا ماذا سوف نجني من التعليم في ظل لقمة العيش غير موجودة بأيدينا ، تركنا المدرسة وحنابل المدرسة وفارقنا السبورة والطبشورة وذهب كل واحد منا في حال سبيله يبحث عن لقمة عيشه وتوجهت أنا إلى الزراعة واشتغلت مزارع ، أعمل في مزرعة عبد اللطيف بن نافع لمدة ست سنوات ولكن لم يكن الحال أحسن مما كان ، بل الحال حال شدة وعوز وفقر ، لكن لا خيار لنا في ذلك.
قصة الأرنب التي تحولت إلى الثعلب
واذكر قصة لا أنسها .. كنا في ليلة من الليالي وقد أشتد علينا الجوع وبلغ بنا حداً كبيراً أنا ومعي زميلي شاكر بن اسماعيل وكنا (نغرب) الحشيش ولنا ثلاثة أيام نكاد نكون بلا زاد فصاح بي شاكر : (يا عطالله أيش الحل مع هذا الجوع؟)، فجلسنا نتفكر كيف ندبر لنا شيء يسد رمقنا من الجوع، فما كان منا إلا أن طلبنا (فخ ) كان عند عمنا صاحب المزرعة لاصطياد الذئاب ونصبناه نريد أن نصطاد أرنب كي نأكلها وفي لحظة متأخرة من الليل سمعنا صوت الفخ وعلمت أن هناك صيدة، فسبقني شاكر إليها فوجد الصيدة أمامه بالفخ، قال يا عطالله .. صدنا ثعلب!! قلت هو عشانا الليلة .. نظر إلي ونظرت إليه قال توكلنا على الله .. فذبحناه وسلخنا جلده وطبخناه وتمرقنا بمرقته واكلنا لحمه. ليس لدينا رز ولا خبز لقد طبخنا الثعلب في ماء فقط، ولكن أسمع لما هو أعجب من ذلك. جاءنا مع الفجر صاحب لنا هو ابن حميدان قال : أشم رائحة ( دسمة) عندكم ايش كان عشاكم البارح ؟ قلنا له : صدنا أرنب .. قال ما بقيتوا منها شيء ؟ قلنا إلا بقي رأسها. فأخذه وكان الرأس مسلوخ وطبخه في ماء وشرب مرقته وأكل ما فيه من لحاء لحم الرأس حتى أنه اخرج عيون الثعلب بحثا عن بقايا لحم…. حالة من الجوع آلمت بالناس في ذلك الوقت لا يعرفها أو يتصورها إلا من عاشها.
ثم أكمل لي الحديث تركت الزراعة واشتغلت جمالاً مع عطية الله الصعيدي أجمل بزراعة خوالي قرابة الأربع سنوات، مرت عشر سنوات بالزراعة والجمالة تزوجت خلالها( أم سعود). وأولمت بعشاء منصوف في ذلك الوقت . وتمشيا مع العادة في ذلك الوقت لم يسمح لي بالدخول على أم سعود الا بعد سبعة أيام ودخلت عليها في بيت (عشة).
عدت للمدرسة لأدرس من الصف الثالث مع طلاب في سن أطفالي
وفي لحظة توقفت أتأمل حالي وما أنا فيه وأنظر إلى بعض زملائي من هم في سني وقد تقدموا بالتعليم وتخرجوا مدرسين وتوظفوا وأنا مازلت جمال ليس إلا ! فقررت العودة إلى مقاعد الدراسة بعد الابتعاد عنها عشر سنوات تركتها بالرابعة عشر وعدت إليها متزوجاً وأب كان وقتها أبني سعود في الثالثة من عمرة، وعمري أربع وعشرون عاماً وكنت قد اتفقت مع زميلي حمدان المغربي بالرجوع للمدرسة وفي اليوم التالي ذهبنا لمدير المدرسة محمد صالح المغربي أنذاك وكنت مرتدي ملابس الجمالة (ثوب ومتحزم بالكمر) كان الكمر فيه أصول ورجاع الخضرة حقت خوالي وأخبرته برغبتي بالعودة للمدرسة فقال: يا عطالله انت كبير والتلاميذ صغار مثل عيالك قلت له سأدرس مهما كان، .. وأما إصراري وافق وفي اليوم الثاني ذهبنا للمدرسة فأخذنا الأستاذ محمدصالح للفصل أنا وحمدان وذهب بنا إلى الساحة وكان التلاميذ يلعبون لعبة ( طاق طاق طاقية) وأنا واقف بينهم كبير ولست في سنهم، كان موقف محرج لي لكن تصميمي على العودة كان أكبر.
أعدت حفيظ المزروعي من المزرعة للمدرسة ليواصل تعليمه حتى الدكتوراة
عزمت على ترك الجمالة ومواصلة الدراسة غير أن خوالي احتجوا علي كيف تترك خضرتنا وماعندنا جمال غيرك فاستسمحتهم واستأذنت منهم والتحقت بالمدرسة وذهبت إلى كل زملائي الذين تركوا الدراسة معي وطلبت منهم العودة فاستجاب لي عدد كبير ومنهم حفيظ المزروعي، الذي أبدى والده الموافقة بعودة ابنه بشرط أن يكمل( ناقر) الخضرة الذي بيده، والناقر هو فترة الحصاد. وخلص الناقر وألتحق حفيظ بالمدرسة وكمل معنا السنة وهو الأن (الدكتور حفيظ المزروعي ). ولما سمعوا بنا زملاءنا اللي تركوا المدرسة بدأوا يرجعون حتي كونا فصل كلنا من الكبار العائدين الى مقاعد الدراسة. ودرسنا رابع وخامس وسادس وتخرجنا ثم انتقلنا إلى الدراسة بمعهد إعداد المعلمين برابغ وأكملنا الصف الاول والثاني ثم انتقلت إلى جدة حيث أكلمت ثالث معهد وتخرجت معلماً للغة العربية
وتم تعيني في مدرسة موسى بن نصير الابتدائية في غران التي استحدثت عام 1380 هـ معلماً للغة العربية.
ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي الوظيفية، الآن حققت الحلم وذهبت حياة الزراعة والجمالة وبدأت مرحلة جديدة من حياة التعليم.
عندما قدمت لغران وتوجهت للمدرسة وجدت مديرها الأستاذ دخيل وعملت فيها لمدة سنة معلم للغة العربية ثم تعينت مديراً لها خلفاً للأستاذ (دخيل) وكان من زملائي الذين اتذكرهم الأستاذ أحمد بوكر حوباني ومهدي فرحان ومرزوق وعبدالله سعدي وعابد عبيدالله المزروعي وغانم الغانمي … وغيرهم.
وهنا استأذنت ضيفي العزيز أن نكمل اللقاء من موقع الحدث فانتقلنا بالسيارة إلى المقر القديم لمدرسة موسى بن نصير الابتدائية بحارة الطينة لنقف على الأطلال وندع ضيفنا يتذكر أهم الأحداث ويصف لنا الحياة في ذلك الوقت كيف كانت .. وهذا ما سيكون حديث الحلقة القادمة من شاهد على العصر.
نستودعكم الله على أمل اللقاء قريباً..
في الحلقة القادمة …
كيف كان مدير المدرسة والمعلمون يداومون من خليص إلي المدرسة في غران كل أسبوع على ظهر ……………
أجمل أيام حياتي قضيتها في غران … وهذه ذكرياتي مع رائد التعليم في غران الشيخ حميد بن نصاح
وافقت الرئاسة على افتتاح مدرسة للبنات في غران وبنى حميد المدرسة .. وقال لي : دبر لنا معلمات …
والمزيد في لقاء شيق حافل بالقصص والذكريات